السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.جزاكم الله خيرًا على هذه الشبكة المباركة، جَعَلَها الله في موازين حسناتكم.أنا فتاةٌ أعمل في مكان مختلطٍ، لكن ضايقني أمر الاختلاط مع الرجال، سواءٌ أكان في المواصلات، أو مكان العمل نفسه.أحيانًا
تحدُثُ بعض الخلوات غير الشرعية في المكاتب المختلطة؛ فقررتُ تَرْك العمل؛
إحصانًا لنفسي، وإرضاءً لربي، وأنتظر نصيبي حتى يصونني من العمل
والاختلاط.تفاجأت
برفْض أبي الشديد لتركي للعمل، بالرغم من أنه ملتزمٌ، ولكنه يرى أنني
مُتشدِّدة، ويرى أنني قد أنفع المجتمع بعملي هذا، حاولتُ معه لكنه يأبَى،
فاضطررتُ لأن أواصل فيه؛ تجنُّبًا للعُقوق، ولكني الآن لا أستطيع المواصلة،
وأُصبت بالاكتئاب، وأصبحَتْ حياتي تعيسةً بسبب إجباري على ما لا أريد، أنا
أحاول الآن إدخال مَن أثق فيهم كواسطة بيني وبينه، فهل من وسائل أخرى
أحاولها معه؟ وهل لو استقلتُ من العمل بغير رضاه أكون عاقَّة له؟ مشكورين، وجُزيتم خيرًا. الجوابالحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:فجزاكِ الله خيرًا على نفرتكِ من الاختلاط، وعلى حِرصكِ على الاستبراء لدينكِ وعرضكِ، ومن المعلوم أنَّ الدين الإسلامي قد سدَّ
كُلَّ المنافذ التي تؤدِّي إلى الوقوع في الحرام، وهذا أصْلٌ ثابتٌ في
كتاب الله - تعالى - وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-
ولا يخفى على أحدٍ ما يحصل من مفاسدَ كثيرةٍ، وطوام وبيلةٍ، مِن جراء
اختلاط المرأة بالرجال؛ مِن زوال الحياء، وفتنة كلٍّ منهما بالآخر، والوقوع
في الحرام، ومنابذة ما جاءتْ به الشريعة المطهَّرة، حيث جعل النبيُّ
مكانًا للنساء لصلاة العيد، لا يختلطن بالرجال؛ ففي الصحيحين: أنَّ النبي -
صلى الله عليه وسلم - حين خَطَبَ في الرجال، نَزَلَ وذَهَبَ للنساء،
فَوَعَظَهُنَّ وذَكَّرَهُنَّ، وهذا نصٌّ على أنهنَّ كنَّ في مكان غير مكان
الرجال، وأخْبَرَنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ((خير صُفُوفِ النساءِ
آخِرُهَا، وشَرها أوَّلُها، وخير صُفُوفِ الرِّجالِ أَوَّلها، وشَرها
آخِرها))؛ رواه مسلم.والذي يظهر أنه لا يجوزُ لكِ
الاستمرارُ في هذا العمل، ولا تَجِبُ عليكِ طاعةُ أحدٍ في الاستمرار فيه،
ولو كان الآمرُ الوالدَيْن؛ فضلًا عن غيرهما، فإن الطاعةَ إنما تكون في
المعروف.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -
رحمه الله -: "ويلزم الإنسانَ طاعةُ والديه في غير المعصية، وإن كانا
فاسقَيْن، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعةٌ لهما ولا ضرَرَ، فإن
شقَّ عليه ولم يضرَّه، وَجَبَ، وإلَّا فلَا".
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي -
رحمه الله -: "... وحيثُ نَشَأَ أمرُ الوالد أو نهيُه عن مجرد الحمق، لم
يُلتَفَتْ إليه؛ أخْذًا مما ذَكَره الأئمةُ في أمره لولده بطلاق زوجته،
وكذا يقال في إرادة الولد لنحو الزهد، ومنع الوالد له؛ أن ذلك إن كان لمجرد
شفقة الأبوة، فهو حمقٌ وغَبَاوةٌ، فلا يَلتَفِتُ له الولدُ في ذلك،
وأمرُهُ لولَده بفعل مباح لا مشقةَ على الولد فيه يتعيَّن على الولد
امتثالُ أمره، إن تأذى أذًى ليس بالهين، إن لم يمتثل أمره، ومحلُّه - أيضًا
- حيثُ لم يقطعْ كلُّ عاقلٍ بأن ذلك مِن الأب مجردُ حمقٍ، وقلةُ عقل؛ لأني
أقيد حلَّ بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مَعَ والده ما يتأذَّى به إيذاءً
ليس بالهين؛ بما إذا كان قد يُعذَرُ عرفًا بتأذيه به، أمَّا إذا كان تأذيه
به لا يعذره أحدٌ به لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خُلُقٍ، وحِدَّةِ
حمقٍ، وقلة عقل، فلا أثر لذلك التأذِّي، وإلا لوجب طلاقُ زوجتِهِ - لو أمره
به - ولم يقولوا به! فإن قلت: لو ناداه - وهو في الصلاة - اختلفوا في وجوب
إجابته، والأصحُّ وجوبُها في نفلٍ إن تأذَّى التأذِّي المذكور، وقضيةُ هذا
أنه حيثُ وُجِدَ ذلك التأذِّي - ولو مِن طلبِهِ للعلمِ أو زُهدِهِ أو غير
ذلك من القُرَبِ - لَزِمَهُ إجابتُه، قلت: هذه القضيةُ مقيدةٌ بما ذكرتُه؛
أن شرط ذلك التأذِّي ألا يَصْدُرَ عن مجرد الحُمقِ، ونحوه، كما تَقَرَّرَ،
ولقد شاهدتُ من بعض الآباء مع أبنائهم أمورًا في غاية الحمق التي أوجَبَتْ
لكل من سمِعَها أن يعذر الوَلَدَ، ويُخَطِّئَ الوالد فلا يُستَبعدُ ذلك؛
وبهذا يُعلَم أنه لا يَلزمُ الولدَ امتثالُ أمرِ والدِهِ بالتزام مذهبه؛
لأن ذلك حيث لا غَرَضَ فيه صحيحٌ مجردُ حُمْقٍ، ومع ذلك كله، فلْيحْتَرِزِ
الوَلَدُ من مُخالَفَةِ والده، فلا يُقدِم عليها اغترارًا بظواهر ما ذكرنا،
بل عليه التحرِّي التام في ذلك... فتأملْ ذلك؛ فإنه مهمٌّ".
وقال الحافظ ابن الصلاح في
فتاويه: "وأما أن العقوق ما هو؟ فإنا قائلون فيه: العقوقُ المحرمُ كلُّ
فعلٍ يتأذَّى به الوالدُ أو نحوُه تأذيًا ليس بالهين، مع كونه ليس من
الأفعال الواجبة، وربما قيل: طاعةُ الوالدين واجبةٌ في كل ما ليس بمعصيةٍ،
ومخالفةُ أمرهما في كل ذلك عقوقٌ، وقد أوجب كثيرٌ من العلماء طاعتَهما في
الشبهات، وليس قول من قال من علمائنا: يجوز له السفرُ في طلب العلم وفي
التجارة بغير إذنهما، مخالفٌ لما ذكرت، فإن هذا كلامٌ مطلقٌ، وفيما ذكرتُه
بيانٌ لتقييد ذلك المطلق".
وقال الإمام المجتهد ابن دقيق العيد - رحمه الله - في "
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام":
"عُقوق الوالدين معدودٌ من أكبر الكبائر في هذا الحديث، ولا شكَّ في
عِظَمِ مَفْسدتِهِ؛ لعظم حق الوالدين، إلَّا أن ضبط الواجب من الطاعة لهما،
والمحرم من العقوق لهما فيه عُسْر، ورُتَبُ العُقُوق مختلفةٌ؛ قال شيخنا
الإمام أبو محمد بن عبدالسلام: ولم أقفْ في عُقوق الوالدين، ولا فيما
يختصان به من الحقوق، على ضابط أعتمد عليه؛ فإن ما يَحْرُم في حق الأجانب
فهو حرامٌ في حقهما، وما يَجِبُ للأجانب فهو واجبٌ لهما، فلا يجب على الولد
طاعتهما في كلِّ ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء،
وقد حرم على الولد السفرُ إلى الجهاد بغير إذنهما، لما يَشُقُّ عليهما من
توقُّع قتلِه، أو قطع عُضْوٍ من أعضائه، ولشدةِ تفجُّعِهما على ذلك، وقد
أُلحِقَ بذلك كلُّ سفرٍ يخافان فيه على نفسه، أو على عضوٍ من أعضائه، وقد
ساوى الوالدانِ الرقيقَ في النفقةِ والكسوة والسُّكنى؛ انتهى كلامه.
والفقهاءُ قد ذكروا صورًا
جزئيةً، وتكلموا فيها منثورةً، لا يحصُل منها ضابطٌ كليٌّ، فليس يبعُدُ أن
يُسلَك - في ذلك - ما أشرنا إليه في الكبائر، وهو أن تُقاسَ المصالحُ في
طرف الثُّبوت بالمصالح التي وَجَبَتْ لأجلِها، والمفاسدُ في طرفِ العَدَمِ
بالمفاسد التي حُرِّمتْ لأجلها".
وقال العلامة المحدث بدر الدين
العيني: "وقال الشيخ تقي الدين السبكي - رحمه الله -: إنَّ ضابطَ العُقوق
إيذاؤُهما بأي نوعٍ كان من أنواع الأذى؛ قَلَّ أو كَثُرَ، نَهَيَا عنه أو
لم يَنْهَيَا، أو يخالفهما فيما يأمران أو ينهيان؛ بشرط انتفاء المعصية في
الكل، وحكَى قول الغزالي: إن أكثر العلماء على وجوب طاعتهما في الشبُهات،
ووافَقَهُما عليه، وحكى قول الطرطوسي من المالكيَّة: أنهما إذا نهياه عن
سنةٍ راتبةٍ - المرةَ بعد المرةِ - أطاعَهُما، وإن كان ذلك على الدوام فلا
طاعةَ لهما فيه؛ لما فيه من إماتة الشرع، ووافَقَهُ على ذلك أيضًا.
والوالدانِ يَحرُم إيذاؤهما -
هيِّنًا كان الأذى أو ليس بهين - خلافًا لمن شرط في تحريم الأذى أن يكونَ
ليس بالهين، فأقول: يحرم إيذاؤهما مطلقًا، إلا أن يكون إيذاؤهما بما هو
حقٌّ واجبٌ لله، فحقُّ اللهِ أوْلى". اهـ.
ولكني أخشى أن يكونَ والدك في
حاجةٍ مادية لعملكِ، ولذلك يأمركِ بالاستمرار في العمل؛ فقد ذكرتِ أنه
إنسان مُلتزم دينيًّا، فاسْأليه عن حقيقة موقفِه، فإن كان إلحاحُه عليكِ
لضائقةٍ ألمَّتْ به، ولا يوجد أمامكِ عملٌ بديلٌ - فابْقَي في العمل حتَّى
تَجِدي غيرَه، مع التقيُّد بالضوابط الشرعيَّة، والتي منها: الالتزام
بالحجاب الشرعي، وعدم الاختلاط بأحد من الرجال، فإن دعت الحاجةُ للحديث مع
أحد الرجال، فليكنْ بدون خضوعٍ بالقول؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾[الأحزاب:
32]، مع الحِرص على غضِّ البَصَر، وتَجنُّب مُخالطة الرجال والحديث معهم
إلا فيما تدعو إليه الحاجةُ، ولتَكُنْ مُعاملتُهم بِحَزمٍ وصرامة، مع
الاشتغال بالطَّاعات والذِّكر، وكثرة اللُّجوء إلى الله، والدُّعاء
بالوقاية من الفِتَن.
وأمَّا إن لم يكن الأمرُ بسبب
حاجة الوالد للمساعدة، فاستعيني بالله، واتركي العمل، وليس في ذلك عقوقٌ،
كما تقدَّم بيانُه، وأطلعي الوالد على ذلك الجواب، كما أطلعيه على بعض
فتاوى كبار العلماء في منْع النساء من العمل المختلط، وستجدينها في موسوعات
الفتاوى على شبكة الإنترنت، كما يمكنكِ الدخول على موقع الموسوعة الشاملة،
وعليه تبويب خاصٌّ بفتاوى كبار العلماء.
نسأل الله أن يصلح والدكِ، وأن يخلفَ عليكِ بخير