السؤاللديَّ
صديقةٌ متفوِّقة جدًّا في دراستها، لكنها ابتُلِيَتْ مؤخَّرًا بما
يُسمَّى: الحب؛ لذلك فهي حاليًّا مُكتئبة ومُنهارة؛ لأنَّ هذا الشخص لا
يبادلها نفس المشاعر، فما السبيل لكي تنساه؟ الجواببسم الله الموفِّق للصواب
وهو المستعان
أيتها العزيزة، أشكر لكِ
اهتمامك بصديقتكِ، عطف اللهُ عليها قلبًا محبًّا بالصَّفاء، واستنقذها مِن
عظيم البلاء؛ فبارَك الله فيكِ، وأكثَرَ في الصديقات مِن أمثالكِ.
وبعدُ، فحين يُبتَلى المرءُ
بحبِّ محبوب لا يحبه، ولا سبيل إليه؛ فعليه أن يحملَ نفسه على الصبر عنه،
واليأس منه، ويقطع منه الأمل كما يقطع الواحد منَّا حبائل الأمل من حبيبٍ
غيَّبه الموت في التراب، فلا إياب له!
ففي اليأس ممن قد نأى بقلبه ناهٍ للمحب عن الطمع في المحبوب! وفي الصبر خير، قال كُثَير عزَّة:
فإن تَسْلُ عنك النفسُ أو تَدَع الهوى فباليأس تَسْلُو عنك لا بالتجلُّدِ
|
وقلَّ أن ييئَسَ المحبُّون ممن
يحبون! فمهما خيَّب الحبُّ آمالهم، وذلَّ الهوى نفوسهم - أعاذنا الله مِن
ذلة الهوى - فإنهم لا ينفكون متمسِّكين بكل ما يربِط قلوبهم بأحبتهم؛ مِن
رسائل حميمة، وصورٍ جميلةٍ، وذكريات طيِّبات! وليس هذا مِن الوفاء، ولا هو
من العقل، بل هو ضرْب مِن الجنون؛ لأنَّ استجلاب الذِّكريات الطيبة يُبقِي
على شمعة الأمل الكذوب متَّقدة في الجوانح، وباتقادها تجمح النفس الحزينة
إلى حيث لا يُطمَع في شفائها!
ثَمَّة نصائحُ في هذا الباب
الأليم، ليس الهدَف منها إزالة ما في شغف القلوب مِن حب، ولكن تحقيق
التعايُش مع الواقع المرير، وتسلية القلب الحزين، فآمل أن تنتفعَ بها
صديقتك العزيزة:
أولًا: إتلاف الذِّكريات القديمة التي تربطها بذلك الشخص، ومحو كل أثر له من
رسائل، وصورٍ، ومَواضيعَ، سواء كان أثرًا في الجوال، أو في البريد
الإلكتروني، ومنع نفسها - ولو قهرًا - من استجلاب الذِّكريات السعيدة،
والآمال العظيمة التي جمعتها به، ولا ريب أن الحنين إليه سيغلبها حينًا،
فتتذكره بغير اختيارها، إلَّا أنَّ الحكمةَ تقتضي منها وقف الذِّكريات مِن
النمو في الذاكرة متى امتلكت الإرادةُ والاختيار، مِن خلال التشاغُل بعملٍ
ذهنيٍّ أو يدوي تقطع به الوقت عن الاسترسال في التفكير في الحبيب!
ثانيًا: عدم تغذية العقل الباطن بالرسائل السلبيَّة الخاطئة نحو:
• لا أستطيع العيش بدونه!
• لا أستطيع أن أنساه!
• "فلان" هو الرجل الوحيد الذي أحببتُه مِن كلِّ قلبي.
والاعتياض عن هذه الرسائل السلبية بأخرى إيجابية نحو:• أستطيع العيش بدونه، ولن تتوقَّف حياتي على وُجودِه أو غيابه!
• أستطيع أن أنساه، وأتزوج خيرًا منه!
• باستطاعة قلبي المحب أن يحبَّ مَن يستحق خفقاته.
ثالثًا: عدم تذكُّر الأوصاف المحبوبة والأخلاق المحمودة في الحبيب، بل ينبغي النظر
إلى الجوانب السلبيَّة، ومِن أهمها: إهماله لها، وعدم تحرُّجه من جرح
فؤادها.
رابعًا: قطع الارتباطات الحسِّيَّة في مراكز الذاكرة، كأغنية تذكِّرها به، أو
رائحة عطر معينة، أو ثوب، أو مكان جمعها به، أو ساعة من اليوم كانتْ تلتقيه
فيها، بارتباطات أخرى تمحو بها تلك الارتِباطات التي تهيج داعية الحبِّ في
قلبها!
خامسًا: صرف الهمَّة إلى وسائل جديدةٍ ومبتكرةٍ؛ لقَطْع طرُق التفكير في الحبيب،
كقراءة كتاب مُسلٍّ، أو الاتصال بك، أو مزاولة رياضة هوائيَّة، ونحو ذلك.
سادسًا: من أنجع الطرق لكسر العادات القديمة بما فيها التعلق بشخص ما: القيام
بعملٍ جديد، فلتُفَكِّر صديقتكِ في نشاطٍ غير مألوف لديها، لم تَعْتَد
القيام به؛ كالتدرُّب على برنامج ضروري، أو التسجيل في شبكة اجتماعيَّة
جديدة، أو تعلُّم لغة جديدة، ونحو ذلك؛ لتشتغل بها عن التفكير في ذلك
الحبيب.
سابعًا: الاهتمام بالآخرين، والإحسان إليهم على سبيل الحبِّ الخالص غير المشروط،
الذي لا ينتظر فيه المحب مقابلًا عاطفيًّا أو ماديًّا، فما دامت القلوب
حيَّة في الصدور، فلن تتوقَّف نبضاتُها على حبِّ شخصٍ واحد في الكون،
وَهَبْناه قلوبنا وسَلَبَنا سعادتها! وما دامت القلوب حيةً؛ فسيكون في
مقدورِها أن تحب دائمًا، وتعطي أبدًا، وتصنع الخير لكلِّ الناس، سواء في
العالم الواقعي، أو في العالم الافتراضي على شبكة الإنترنت.
ثامنًا: إفراغ الطاقة العاطفيَّة في قوالب الإبداع الأدبي، أو الابتكار الفني، أو الخيال العلمي.
تاسعًا: اليقين التام بأن ما نتركه هو لله - تعالى، فإنَّ الله - عز وجل -
يعوِّضنا خيرًا منه؛ ((إنك لا تدع شيئًا اتِّقاء الله - تعالى - إلا أعطاك
الله - عز وجل - خيرًا منه))؛ رواه أحمدُ والبيهقي.
وبقدر قوة اليقين بعِوض الله -
عز وجل - وأنَّ الآخرة خير وأبقى؛ بقدر ما تقوى الرغبةُ في ترك ما نَهْوَى
لله، فلتثقْ صديقتكِ بأنها ستلتقي مستقبلًا - بإذنه تعالى - بمحبوبٍ أحب
إليها مِن هذا الحبيب، فلا تحزنْ، وقاها اللهُ الحزنَ والألم.
عاشرًا: الدُّعاء والابتهال إلى الله - تعالى - أن يجعل ما زوَى عنها مما تحب
فراغًا لها فيما يحب - سبحانه؛ قال ابنُ القيِّم - رحمه الله ورضي عنه - في
"روضة المحبِّين": "ومِن أفضل ما سُئل الله - عز وجل - حبه، وحب من يحبه،
وحب عمل يقرب إلى حبه، ومن أجمع ذلك أن يقول: ((اللهم إني أسألك حبَّك،
وحبَّ مَن يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله
قوة لي فيما تحب، وما زَوَيت عني مما أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب، اللهم
اجعل حبك أحب إليَّ مِن أهلي ومالي ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم
حبِّبني إليك، وإلى ملائكتك، وأنبيائك، ورسلك، وعبادك الصالحين، اللهم
أَحْي قلبي بحبِّك، واجعلني لك كما تحب، اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله،
وأرضيك بجهدي كله، اللهم اجعل حبي كله لك، وسعيي كله في مَرْضاتك.
وهذا الدُّعاء هو فسطاط خيمة الإسلام، الذي قيامها به، وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".
أنصح صديقتكِ أخيرًا بالنظر في
استشارة "صدمة عاطفية، ثم اكتئاب"؛ فقد تكلمتُ فيها عن بعض طرُق الشفاء من
الصدمات العاطفية، فعسى أن تنتفعَ بها.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، وإليه المرجِع والمآب