السؤالبعد تقاعُد زوجي عن العمل أكْثَرَ مِن شُربِ الخمور، وقلَّتْ شهيَّته للطعام، وأصبح عصبيَّ المزاج، ودائمَ السباب والشتْم بدون سببٍ! يتَّهمني بالخيانة، ويذكر لذلك أسبابًا وهمية، مع أني متديِّنة وملتزمة. بسبب خوفي مِن المشاكل جعلتُ ابني الأكبر يُسافر إلى بلد أجنبي، تجنُّبًا لمشاكله مع أبيه. المشكلةُ
تزداد أكثر فأكثر، وقد أصبح يطلب مني العَلاقة الجنسية أمام ابني الصغير
الذي لم يتجاوز العاشرة! ويكرِّر اتهاماته لي، ويدَّعي أنني أمارس الجنس
سرًّا، علمًا بأنه ليس له القدرة على الجنس أصلًا. أحيانًا
يُوقظنا مِن النوم في ساعاتٍ متأخِّرة من الليل، وأصبح مصدر إزعاج لنا
بسبب صُراخه! أسكت أحيانًا، وأحيانًا أصرخ حتى يختفي صوتي. أشعر بالظُّلم، أنقذوني، كيف أتعامَل معه؟ أرجوكم ساعدوني أنا وابني. الجواببسم الله الموفِّق للصواب
وهو المستعان
أيتها العزيزة، ما تصفينه هو بعض آفاتِ مُعاقرة الخمر وجناياتها، أو ما يصطلح على تسميته طبيًّا بـ: الإدمان الكحولي
Alcoholism؛
فالسكرُ يُزِيل العقل الذي يحبس النَّفْس، ويردها عن هواها، ويفقد
مُعَاقِر الخمر قدرتَه على ضبط انفعالاتِه وحركاته، فتنطلق دوافعُه
المكبوتة - كالرغبات الجنسية والميول العدوانية - بصورتها القبيحة التي كان
يضبطها العقلُ قبل زواله بالسُّكر، فيتكلَّم السكران بما يندمُ عليه،
ويفعل ما يندم عليه! ومُعظم مُدْمِني الخمر يُدمِنون شربَها لأسباب نفسيةٍ؛
هرَبًا من واقعِهم المرير بكل ما فيه من مشكلات وهمومٍ، وشعور بالإحباط
والفشَل، بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية المتدنِّية، مع
ضَعْف الوازع الديني، وكما أخبرتِنا بنفسكِ فإنَّ لتقاعدِ زوجكِ - ولعله
تقاعَدَ مبكرًا - وما يتبع ذلك من مشاعر نفسية سلبية، وتغير إيقاع سير
الحياة الاجتماعية والاقتصادية - مع وضع الجوِّ العام في بلدكم في الاعتبار
- دورًا رئيسًا في إدمانه شرب الخمر، في ظلِّ البُعد عن الله تعالى، وعدم
وجود وازعٍ يكفُّه عن ارتكاب هذه الكبيرة! سواء كان وازعًا من نفسه، أو
وازعًا منكِ كزوجة!
يستلزم الشفاء من الإدمان
الكحولي تدخُّلًا طبيًّا عاجلًا، وليس نصائح فارغة مِن محتواها للتعامل مع
الزوج المُدمِن! فاستفرغي وسعكِ، وابذلي مجهودكِ لإقناع زوجكِ بأهميةِ
العلاج، أو اطلبي مِن أحدِ أقاربه أو أصدقائه الصالحين - ممن تعلمين بحكم
عشرتك لزوجكِ أن له تأثيرًا قويًّا عليه - ليقنعَه بضرورة العلاج، وقد
ذكرتُ في استشارة: "كيف نعالج أخي المدمن؟!" بعضَ السبُل لإقناع المُدمِنين
للذهاب إلى العيادات المختصَّة، فأرجو النظر فيها للأهمية، أما سكوتكِ عن
إدمان زوجكِ - عافانا الله وإياه - وتركه في براثنِ الخمر؛ تمزِّق عقله،
وتُتلِف جسده، وتُفسِد عليه دينه؛ فلن يزيده إلا سوءًا، وستنالين قسطًا من
الإثم بعدم إنكاركِ المنكر! فقد روى قيس بن أبي حازم - رضي الله عنه - قال:
"قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "يا أيها الناس، إنكم تقرؤون
هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾[المائدة:
105]، وإنما سَمِعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الناس
إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب))، وإني
سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما مِن قوم يعمل فيهم
بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون، إلا يوشك أن يعمهم الله
بعقاب))؛ أخرجه أبو داود، والترمذي.
وقد وردتْ مسألة لشيخ الإسلام ابن تيمية في المداومة على شرب الخمر، وترك الصلاة،
وما حكمه في الإصرار على ذلك؟ فأجاب - رحمه الله تعالى ورضي عنه - بقوله:"الحمد لله، أما "شارب الخمر"،
فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحدَّ إذا ثبت ذلك عليه، وحدُّه أربعون جلدةً،
أو ثمانون جلدةً، فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة، وإن اقتصر على
الأربعين ففي الإجزاء نزاعٌ مشهور، فمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى
الروايتين أنه يجب الثمانون، ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن
الأربعين الثانية تعزير، يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، فإن احتاج إلى ذلك
لكثرة الشرب، أو إصرار الشارب، ونحو ذلك، فعل، وقد كان عمر بن الخطاب
يعزِّر بأكثر من ذلك؛ كما رُوِي عنه أنه كان ينفي الشارب عن بلده، ويمثل به
بحلق رأسه، وقد روي مِن وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن
شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها
في الثالثة، أو الرابعة فاقتلوه))، فأمر بقتلِ الشارب في الثالثة أو
الرابعة، وأكثر العلماء لا يُوجِبون القتل؛ بل يجعلون هذا الحديث منسوخًا؛
وهو المشهور من مذاهب الأئمة.
وطائفة يقولون: إذا لم ينتهوا
عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع
مِن الأشربة قال: ((فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم))، والحق ما تقدَّم، وقد
ثبت في الصحيح أن "رجلًا كان يدعى حمارًا، وهو كان يشرب الخمر؛ فكان كلما
شرب جلده النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعنه رجل، فقال: لعنه الله، ما
أكثر ما يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لا تلعنْه؛ فإنه
يحب الله ورسوله))! وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه.
وأما "
تارك الصلاة"
فإنه يستحق العقوبة باتفاق الأئمة، وأكثرهم - كمالك والشافعي وأحمد -
يقولون: إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهل يقتل كافرًا مرتدًّا، أو فاسقًا
كغيره من أصحاب الكبائر؟ على قولين؛ فإذا لم تمكن إقامة الحد على مثل هذا،
فإنه يعمل معه الممكن: فيهجر ويوبخ حتى يفعل المفروض، ويترك المحظور، ولا
يكون ممن قال الله فيه: ﴿
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59]، مع أنَّ إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فكيف بتاركها؟"، ولا
تستصغري أثر الدعاء في تغيير أحوال زوجكِ، فاسألي الله تعالى أن يمنَّ عليه
بالتوبة والهداية، فبيدِه وحده أمر الهداية، وعسى الله أن يصلح حاله،
ويرده إليكِ ردًّا جميلًا، وأن يُعِينكِ على الأخْذِ بيده، ويصلح بكِ وعلى
يديكِ، ويرزقكم قريبًا جدًّا لذة السعادة والاستقرار العائلي، اللهم آمين.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب