واعتكفت في المسجد الأقصى المبارك
اشرف : ابو البراء
وقفت حائراً لأسابيع هل أسافر لأداء العمرة .... أم هل اعتكف في المسجد الأقصى المبارك في العشرة الأواخر...
المشكلة هي أن المخاطر تحدق بي من كل جانب وأصبحت الموازنة بين المصالح والمخاطر صعبة جداً... فالذهاب إلى الأقصى مخاطرة كبيرة جداً حيث لا أملك تصريح و لست فوق سن الأربعين..... وكذلك بسبب وجود الجدار الفاصل ... فكيف سوف ندخل؟.. كلها أسئلة لا أدري لها جواباً..
وفي الذهاب إلى العمرة سوف تمر على الجسور السوداء ، أما الجسر الأول الإسرائيلي حيث الفحص والتدقيق... فكثير من الإخوة اعتقلوا من على الجسور.. ربما أن صفحتي بيضاء جداً عندهم !! فلست أدري ماذا سيكون الحال..
أما الجسر الأردني فلا أدري لماذا يطلبون الرائح والغادي ... فمع العلم أني لم أقذفهم بحجر واحد فيما مضى , ومع ذلك فقد أحبوا أن يستضيفوني في واد السير وما أدراك ما واد السير..
هذا في العمرة السابقة...
أما هذه المرة .. فوضعت الخيارين في الميزان.. كفه فيها الأقصى الحزين.. الأقصى الأسير.. فيها الجهاد فيها الرباط فيها نصرة الأقصى وإعماره.. ولو يمسح دمعة واحدة عن خده ... ولو بركعة واحدة في جنباته .....
وكفه أخرى فيها بيت الله الحرام الركعة بمئة ألف والعمرة بحجه مع رسول الله والفريضة في رمضان بسبعين مما سواه .. فكيف وهي في المسجد الحرام أو في المسجد النبوي ...
الصراحة.... لو سألت قلبي ماذا تريد .. لأجاب أريد الذهاب للأقصى .... ولو سألت عقلي ماذا تريد ... لقال أريد الذهاب لبيت الله الحرام والكعبة.... ولكن ما هو الحل....
الحل.... جاء هذه المرة من الخارج حيث عارض أبي السفر معارضة شديدة جداً وهدد بعدم الرضا في حال عدم إجابته لما يريد... حاولت مراراً وتكراراً اقناعة ولكنه أبى وأصر على رأيه ... وكنت قد حجزت في أحد الشركات وسوف أخسر مبلغاً كبيراً في حال عدم السفر ولكن ما في اليد حيلة وكأنة هذا هو الاختيار....
وهنا بدأت الصعوبات ... كيف سأدخل إلى المسجد الأقصى.... ففي العام الماضي ... أدخلنا أخ لنا يدرس في (أبو ديس) إلى القدس من جانب الجدار لأنه كان لم يكتمل بعد.... وهذه السنة وقد اكتمل تقريباً من أين سوف ندخل؟....
اتصلت بالأخ نفسه فقال لي لا تقلق.... اليهود يغلقون باباً ونحن نفتح بدلاً منه عشرة أبواب.... اعقد النية ثم توكل على الله وسوف تفرج بإذن الله ....
جاء اليوم المحدد لشد الرحال للأقصى وللاعتكاف فيه ... حملت مصحفي بيميني ... وهو عدتي في كل حين , ثم استحضرنا النية نية الجهاد ونية الرباط ونية شد الرحال إلى الأقصى.... ووضعنا دمنا على أكفنا وأرواحنا بأيدينا .... ثم قلنا يا الله.... وما أعظمها من نية .... بل ما أجملها من نية وما أروعها....فهناك فرق بين العظمة وبين الجمال .
فهذا الشعور وأنت تودع أهلك وأولادك وبلدك وأموالك تودعها جميعا وتقول
إني ذاهب إلى ربي .... وعجلت إليك ربي لترضى...
وأنت لا تذهب للعمل أو التجارة أو للدراسة بل فقط لله .... وقد تكلفك هذه الرحلة عمرك أو حريتك على الأقل .... حقيقة ... شعور لا يوصف من الرهبة والجمال والاحتساب ورجاء القبول من الله ... والإخلاص... إن شاء الله... بل والذي زاد الموقف ألما وبكاء ... ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز الأربع سنوات وهي تردد... (( بابا خذني معك إلى القدس )) وهي تبكي حتى خلعت قلبي من مكانه .....
في هذه اللحظات والله ما دار في قلبي إلا قوله تعال ((قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و اخوانكم و أزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ....))
فأدركت الامتحان .....
فهل سوف يكون أهلي ومالي ونفسي أحب إلي من الله ورسوله وجهاد في سبيله .... وهل سوف ارحم بكاء ابنتي على فقداني إن أنا اعتقلت ؟؟؟ ... تذكرت كلمة قلناها في بداية هذا الطريق .. طريق الالتزام وطريق العمل الإسلامي ...
( لقد سلكنا طريقا أول خطوة فيه هي الموت ) فقلت : إذن ما سوف يأتي فلن يكون اشد منه .
فاستجمعت عزيمتي مرة ثانية وركبنا في السيارة ومضينا بحول الله وقوته.....
مررنا على أول حاجز عسكري .... فصاح بنا هويات... نظر إلى وجوهنا نظرات الغدر والخيانة والحقد .... تفقد الأمتعة للركاب جميعاً ثم قال (سا ) أي امشي .... ثم الحاجز الثاني ( سا ) .... فالثالث ( سا ) حتى وصلنا إلى قلنديا... وهناك كانت المشكلة حيث قالوا لنا بأن هناك حاجر لا يمر منه أحد حتى لو كان الطير الطائر.. ما العمل.. لم يبق إلا هذا الحاجز ونصل أبو ديس , ثم من هناك إلى الأقصى.. اتصلنا بالأخ فقال لنا اركبوا إلى الحاجز وانزلوا قبله بمئات الأمتار... وفعلاً فعلنا كما قال , ونزلنا في منطقة جبلية بين قلنديا وأبو ديس وتقابلها مستوطنة اسمها ( معالي أدوميم ) .. ولكي نعبر الحاجز كان لا بد أن تصعد الجبال من على جانب الحاجز ثم نأتي إلى الطريق الأخر .... وفعلا صعدنا الجبل الأول والجبل الثاني وإذا بنا ننزل عند الحاجز ... وبسرعة هربنا ثم صعدنا الجبل الثالث مع خوفنا أن يرانا أحد من المستوطنين فنكون صيداً ثميناً لهم ....
واصلنا المسير حتى اجتزناهم تماماً وكان قد حان وقت الإفطار فأفطرنا على تمرات كانت معنا ... ثم اختبأنا في نفق ..... وذهب أحد الأخوة فأوقف سيارة فورد ترانزيت ثم نادى علينا وركبنا إلى أبو ديس .
... ولكن المفاجئة في وسط الطريق .. انه حاجز طيار للشرطة لم يكن بالحسبان ..... أوعز السائق إلى ثلاثة منا بالنزول لأن العدد كان أكثر من المسموح به , ليلتفوا حول الحاجز .... والحمد لله انه حاجز للشرطة وليس لحرس الحدود أو للجيش والا لامسينا في مجدو أو النقب أو نفحة أو غيرها..... فالسجون كثيرة .....
لفتت نظري أسئلة السائق المريبة , وكثير من النظرات المشبوهة ... وزاد شكي في أمره عندما طلب من الأخ الذي جاء ليوصلنا أن ينزل معنا إلى السكن , بحجة أنه سوف يصلي معنا , مع أنه من أهل البلد ... وهناك وقت للعشاء ... وشكله لم يكن صائم لكثير من الأسباب .... فأشرت إلى الأخ أن يغير وجهتنا ... ففهم قصدي ونزلنا بعيداً ثم عدنا إلى السكن .
وأخيراً وصلنا الى ( أبو ديس ) ولكن بعد مشقة وتعب وصعود للجبال وما ادراك ما صعود الجبال ولم يبق إلا المرحلة الأخيرة وهي القدس عبر تسلق الجدار الفاصل هذه المرة...
قالوا بأن هناك شيك تصعد عليه ... ثم تقفز منه إلى الجدار الذي ليس طويلاً جداً ... ثم إلى عمود كهرباء ... فتنزل منه إلى الشارع .... وفعلنا ما قيل لنا ... بالرغم من أنه كان هناك جيب لحرس الحدود يصوب كشاف الضوء على تلك المنطقة ..... وبعد ذلك اختبئنا في دار غير مسكونة وكأنها عيادة .... ثم ذهب أحد الأخوة وأحضر فورد ترانزيت أيضا ... وركبنا حتى وصلنا باب العامود , وهو أحد أبواب المسجد الأقصى .
لم تنتهي المغامرة بعد ... فهناك حرس على الأبواب يفتشون الداخل ويطلبون هويته ونحن هويتنا ضفة وممنوع أن نكون هناك فالخطر ما زال كبيرا ً...
دعونا الله بأن يجعل بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا .... وأن يدخلنا إلى الأقصى بسلام ... وسرنا كل لوحده حتى لا نلفت الانتباه ... وصلنا إلى الباب ... وإذا بالوجوه معبسه ... وكأن عليها غبرة ... يرصدون الداخل والخارج ... فتمنيت على الله أن لا يخيب رجائي , وأن لا يذهب تعبي الطويل هباء , فإنه لم يبق إلا أمتار قليلة , وأكون داخل الأقصى المبارك ... فقلت ... يا رب ... يا رب .... يا رب .... يا من يجيب المضطر إذا دعاه ... يا كاشف الغم .... ويا دافع النقم .... يا نور المستضعفين في الظلم .......،
واخيرا .... وبعد كل هذا العناء .... وبعد كل هذه المغامرات .... وبعد كل هذا التعب ....دخلت المسجد الأقصى المبارك.... أولى القبلتين .... وثاني المسجدين .... وثالث الحرمين الشريفين ... مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .... احسست اني اريد ان اعانقه , وهو كذلك .... فهو في الاسر منذ زمن ... ولم ازره منذ مدة طويلة ....
علامات الحزن بادية على ساحاته وعلى اسواره .... الدموع وكأنها تتساقط من على مأذنته .... أردت ان اصرخ بعالي الصوت.... واآآآآ أقصاه .... ولكن لمن الصراخ .... اواه اواه .... لا اذن تسمع ولا قلب يجيب .....
أردت أن أسجد شكرا لله ولكن الجنود كانوا ورائي فخفت أن يرفعونني من سجدتي إلى خارج أسوار الأقصى... دخلت وكانت صلاة العشاء قد أقيمت دخلت في الصلاة ثم في صلاة التراويح .... فكانت تلك الصلوات من أحلى وأجمل وأروع ركعات ركعتها في حياتي ...
فالحمد لله رب العلمين...
قد يسأل سائل ويقول :- هذا تكليف للنفس فوق استطاعتها ..... وما جعل الله عليكم في الدين من حرج ؟! فأقول : لم نكن نعلم بأن الطريق بهذه المشقة .... ثم ألا يستحق الأقصى بأن نتحمل عنه بعض المشاق ...... فاليهود يأتون إلى حائطهم المزعوم من كل أرجاء الدنيا وهو ليس لهم فكيف بالأقصى وهو عقيدة لنا نزلت في كتاب الله ... كيف بالأقصى وهو مقياس العزة للمسلمين على مر العصور ... أليس الجهاد في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ...... وهل الجهاد إلا ركوب الصعاب ...... وصعود الجبال ... واستعلاء على كل أنواع المخاطر... .
المهم... بدأت الاعتكاف من تلك الليلة ... فكان المبيت للرجال في المسجد الأقصى نفسه وللنساء في الأقصى القديم تحت المسجد الأقصى... فكانت تغلق الساحات في الليل وتغلق وكذلك قبة الصخرة المشرفة...
ولكن المفاجئة الكبرى للذي لا يعلم...
هي أنها كانت تغلق علينا أبواب المسجد الأقصى الساعة التاسعة والنصف ليلا ..... ثم تأتي الشرطة الإسرائيلية وتفتحها عند الساعة الحادية عشر , وكذلك الساعة الواحدة ليلا للذهاب إلى الحمامات .... وكان يذهب معنا حراس من الأمام وحراس من الخلف... هذا طبعا داخل أسوار المسجد الأقصى فهل يعلم أحد بذلك...
كان الجنود يتجولون دائما بالليل داخل أسوار المسجد الأقصى المبارك بينما المعتكفون مغلق عليهم داخل بناء المسجد الأقصى نفسه ...
أحرام على بلاله الدوح حلال للطير من كل جنس
فهل يعقل هذا يا بشر !!!!!!!! أين المسلمون !!!!!!!!!! أين العلماء !!!!!!!!! أين حكام المسلمين ...
المسجد الأقصى يئن بحرقة مسرى الرسول يهيب بالعباد
لبوا النداء إن اليهود بساحتي فعلو خسيس الفحش والافساد
اواه ...... لو تنفع الآهات...
فلكم عتبت على إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ...... لماذا نسيتم الأقصى... لماذا نسيتم فلسطين... حتى في دعائكم نسيتمونا ...
.... إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ....
كنت أظن أني فعلت المستحيل وحققت المعجزات حتى رأيت أحد الأخوة من بلدة مجاورة لنا... رأيته في الأقصى مع إخوانه فدهشت وسألته كيف جئت وأنت ..... ؟؟... قال الحمد لله سلكنا طريقا أسهل وجئنا... ليس المشكلة أنه جاء ولكن المشكلة انه قعيد ... قعيد ... لا يستطيع الحركة على قدمية.
((لقد فعل القعيد ما لم تفعله ملايين المسلمين))
في الحقيقة كانت درسا لي ...... فليس الأمر بالسير الطويل إنما السير سير القلب ... وليس الأمر بقوة الأبدان ... فكم من أجسام كالبغال وأحلام كأحلام العصافير .... وكم من قعيد بجسده .... أحيا أمة بعزمه وبجهاده وعلمه وتضحيته ....أحيا فينا حب الأقصى , وحب فلسطين , وحب الشهادة ....... حتى نالها راضيا مرضيا ، على كرسيه المتحرك ، ليقول للعالم أنتم المشلولين ولست أنا ... نعم أنا قعيد عن الحركة ... ولكنكم أنتم قعدتم وتخلفتم عن الجهاد و عن رسول الله صلى الله عله وسلم ... لقد بعتم الغالي بالرخيص ... ورضيتم بالذل والمهانة وتبايعتم بالهوان والعار فسلط الله عليكم صغارا وذلا لا ينزعه عنكم أبدا حتى تسيروا على درب الشهداء احمد الياسين و سيد قطب ومروان حديد .... رحمهم الله ...وعلى درب العلماء العاملين امثال أبي عبد الله حفظه الله .....
الحمد لله بقينا هناك حتى نهار يوم الثامن والعشرين من رمضان ثم عدنا أدراجنا الى بلداتنا وقرانا .... وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون قد قبل منا أعمالنا وصلاتنا وصيامنا وأن يجعل أعمالنا صالحة .. ولوجهة خالصة ولا يجعل لأحد منا شيئا
إنه سميع قريب مجيب الدعاء .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين