المدينة
مأمون أحمد مصطفى
أفاقت من نومها قبل بزوغ الفجر، كعادتها، ظمأى لنور الشمس المستتر خلف طبقات الظلام التي بدأت تتفكك أمام قهر الفجر القادم. لتعطي الكون لونا شديد الإثارة والغموض، فامتزاج اللون، إندماجه بالأفق البعيد المطلي ببقايا ليل راحل، مع أشعة شمس فجر قادم، متسلسل، رقراق، إندماج أواخر ليل، ببداية نهار، سر عميق، سحيق، غائر، مجلل بيفاعة رهبة ترسخ في القلب والعقل، رسوخ الجبال بأعماق الأرض.
هذا الغموض، الجلال، تلك الإثارة، الهيبة، كل هذه لها رغم تلفعها، تمازجها، شفافية، شفافية ماء النهر حين يكون منسابا بهدوء، بروعه، من بين جذوع الأشجار الشامخة، الباسقة، المنتصبة مكانها بكل ثقة، بكل يقين، بكل ثبات، كعلامات، منارات، تضج بالخضرة المتفجرة، المتفجرة بالحياة، بالبهاء، بانشراح تام للوجود، بانفتاح للجمال والروعه.
وما أن بدأت تتسلل الخيوط الأولى للشمس من بين مزق السواد وثقوبه، حتى تبدت أمام ناظري، عارية، عارية تماما، شهيه، تقطر خصوبتها من بين مسامات جلدها كشهد مميز. نعم، ها هي تتمطى أمامي بنعومة عذبه، برشاقة مثيره، بخبث يلامس مراكز الإحساس، بدهاء يستفز كل المشاعر، هي قادرة، لعوب، تدغدغ عن قصد، تصميم، بخطة مرسومه، متقنه، كل ما في داخلي من مجهول. تنتفض إنتفاضة خاصة، لتغسل ما علق بها من سواد الليلة الماضيه بسنابل الشمس الناعمه.
إستبد جمالها بي، إمتلكني، إستثار روحي، شهوتي للحياة، دخل طوفان عارم بأعماقي، فأدركت يقينا بأن هذه المدينه مزروعة بقلبي وعقلي، وأنها حين تتعرى كل صباح لتمتص أشعة الشمس، إنما تتعرى لي، لي أنا، أنا وحدي.
كان الجو رائقا، جميلا، وحمام الماء الساخن الذي عمت فيه أدخل النشوة في جسدي، وأشعرني بخفة ظاهره في وزني،
لا أعلم تحديدا، ولا أعلم تماما، لماذا كان الإحساس المبهم يجول في صدري مذ خلعت نفسي من فراش النوم؟ إحساس من نوع جديد، لم أعهده في ذاتي من قبل. أنا لا أنكر أبدا، بأن هذه المدينه، مدينة طول كرم، المليئة بالمتناقضات العارمه، الطافية على السطح، المترسبة بالأعماق، كانت تثير شهوتي حين تخلع رداءها لتأخذ حمام شمس. كانت تهزني بعنف وقوه، بعريِها، بجسدها اللامع، المصقول، بخصوبتها المركزه، كاِمرأة مكتنزة الشفاه آتية من قلب جمال الصحراء الفتان. الإحساس هذا، كان ينتابني يوميا، بعنف جديد، بشكل جديد، مختلف تماما عن اليوم الفائت.
أما اليوم، فإني أحس غرابة في الأمر، أطأ الشارع بقدمي فأشعر وكأني لم أطأه من قبل. هذا الشارع الذي تربيت في حضنه، في عمقه، في صمته، في غضبه وصراخه. كنت أحس بقدرته على مقاومة برد الشتاء القارص، غضبه من شمس آب، كان يخفق في قلبي، وكنت أخفق في قلبه. هو لي صديق، بيني وبينه أيام، تاريخ، الام، آمال. هذا الشارع ، قال لي كل شيء، وقلت له كل شيء، همس لي، همست له.
وهذه الوجوه القمحيه، الني طالما تفرست عيناي ملامحها، بدقة وانتظام، حتى اختزلتها ذاكرتي بصورة واضحة المعالم، شديدة الإثارة، شديدة الانسجام. أحس اليوم، بأزمة، أزمة شديدة أمامها، أحاول جاهدا، إستخراج صوره، أية صوره من قلب ذاكرتي، فأشعر بوهن عارم، بعجز قاتل، أحك رأسي، أضغط بأناملي على جبهتي، بكل قوة ممكنه، أفرك عيني، أقرص ذقني، ولكن دون جدوى.
هذه الأسراب المتدفقة على الحوانيت، على المطاعم، بصورة الية ورتابة قاتله، كنت أراقبها كل صباح. فأراها خليط بشري منوع بكل شيء، لون الملابس، أكياس الطعام المحمولة بالأيدي أو على الأكتاف.
رائحة الفول الساخن، مقالي الفلافل المنتشرة على شوارع المخيم بكثافة، كانت تداعب شهيتي، تستثيرها، فأشعر بمعدتي تنقبض بشده، وترتخي بشده، فأشعر بجوع قاتل. أتحول الى قط شره جائع، يرى أكداس السمك على بعد منه، ورائحته النفاذه تصدم أنفه فتهز معدته، وتحرض شهيته. لكنه رغم ذلك لا يفعل شيئا غير ضرب الأرض بذيله، وأن يموء بحزن الجوع لأنه لا يستطيع الوصول لغير رائحة السمك.
هذا الخليط من البشر، بوجوهه المتعبه، والتي لا يزال النوم ساكنا في كل ملامحها، حركاتها، قريب مني، بل هو مني وأنا منه، من دمي، من روحي، من كبدي. بيني وبينه تاريخ لا يدون بأدوات اللغة، ولا يحدد بأدوات الزمن ولا بعقارب التاريخ. تاريخ لا يكتشف، كالأرض العذراء المنزوعة من ترهات البشر، لتصنع لذاتها خصوصية تعبق بكل مجهول ومعلوم. خصوصية ذات نكهة خاصة، ومذاق خاص، خارج عن حدود الزمن وإرادة الوقت.
وجوه أحبها بكل ما فيها من سمار ممزوج بخضرة الزيتون، بكل ما فيها من خجل الرمان، بكل ما فيها من حلاوة التين، ومرارة الشيح والحنظل. وكنت دائما –وفي كل يوم – أراقب هذا الخليط وهو يقف أمام مقالي الفلافل، وجرار الفول، بشكل عدائي واضح. كانت الأيدي وهي ترتفع مع تزاحم الأجسام للحصول على طلباتها، تبدو كأغصان الشجر حين تضربه موجة هواء قويه. نغمات الأصوات موحده وكأنها لرجل واحد، أو امرأة واحده – صحن فول - ،- صحن حمص -، - عشرة أقراص فلافل - ، - واحد مسبحه - ، - واحد قدسيه - . ومن يحصل على طلبه كان ينزلق من بين الجميع كحلزونة مبدعه، ليدخل سيارة أو شاحنه من السيارات أو الشاحنات المصطفة على امتداد الشارع، ليصبح بعد وقت قليل، حلزونة من نوع جديد، لها مهارة جديدة، غير الانزلاق من بين الحشد المصطف أمام رائحة الفول والفلافل. حلزونة تدور مجبرة بين الات ضخمة جباره، تفح كأفعى عاشت ما يزيد عن الف عام. عليه أن يقف أمام فحيحها، يصطلي ناره، يحشو أنفه من رائحته، وهو مسلوب الإرادة، عليه أن يقف عاجزا، شاء أم لم يشأ، لأن الأمر خرج من يده كما يخرج الماء من بين الأصابع المنفرجه.
إذ ذاك كنت أشعر بنشوة الانتصار، صحيح أن معدتي تبدأ تطبق على عقلي، كما يطبق التمساح قواطعه على فريسته، فتطير كل لحظات الانتصار والنشوه التي استللتها من حمام الماء الساخن، وشفرة الحلاقه الحاده. لكن، رغم هذا كله، كنت أشعر بالنصر لأني لست واحدا منهم، ولا أقف مثلهم أصطلي نار الرتابة. ولأنني فوق ذلك، سيد وقتي وصانعه، أتصرف به وفق إرادتي ومشيئتي.
أما اليوم، لا أستطيع حتى أن أشتم رائحة الفول والفلافل. هناك شعور غريب يسيطر علي، يأخذ كياني كله، كحوام بحر يستبد بسباح غافل، يظل يدور به ويهبط حتى يوصله الى النهايه، نهاية الحوام بعمقه. حتى شعور الشفقه الذي كنت أحس دبيبه يسري بدمائي نحو هذا الخليط البشري، أصبح اليوم، ينتفخ، يتضخم، فأمد يدي على صدري، على جلدي، أتحسسه خوفا من اندفاعه فوق الجلد. فأشعر بالرهبة، بالجبن، لماذا؟ ما هو شعوري اليوم؟ أنا لا أعرف الحزن مطلقا، هذه حقيقه أشعر بها شعوري أني مبعوث على هذا الوجود، أتنفس من هوائه، وأشرب من مياهه. أما اليوم، فإني، ولأول مره، أظن، ولست على يقين، بأن الحزن سيغزوني. والا، فما هو سبب حالة الفوضى بأعماق أعماقي؟ وما هذا الشتات المتمكن من نفسي؟ ربما لا يكون بداية حزن، هذا احتمال، وقد لا يكون هناك أي شيء على الإطلاق، قد أكون طبيعيا، وهذا أيضا احتمال قائم.
إذا، من أين دخل علي عالم اللامبالاة هذا الصباح، لقد تعودت أن أدقق النظر بكل شيء، وصباح كل يوم. المحلات التجاريه وهي تستعد لاستقبال يوم جديد، الأبواب المفتوحه، والأبواب التي ما زال نصفها الأخر يحجب عن العين جزءا من داخلها، خراطيم المياه بأيدي التجار وهي تغسل الشوارع وتعطي الجو رطوبة مميزه، رطوبه محمله برائحة التراب والغبار المتطاير، عربات الباعه المتجولين المحمله بكل أنواع الخضار والفواكه من تفاح، مندلينا، أجاص، ملفوف، الجوافه التي تغزو رائحتها الهواء والأجواء، الأنوف، الكرز بحمرته الخجله المتراكمة فوق بعضها. بسطات النساء الزاخره بأعشاب الأرض البريه، الزعتر برائحته الحاده العطره، وآه من رائحة الزعتر هذه، كم هي حبيبة الى قلبي، فرفاحينه، لوف، زعمطوط، خبيزه، السينه، بابونج، نعنع. أعشاب تتوزع بطريقة رائعه، مغريه، تتداخل فيها الروائح والالوان. فتهز النفس والعقل هزات شديدة، تستثير الذوق، وتدفع خيالك للالتحام مع الوجبات والمشروبات التي يمكن إعدادها من هذه الأعشاب، خاصة أقراص الزعتر المغرقه بزيت الزيتون أثناء خروجها من الفرن ساخنه سخونة الخيال ذاته.
والأهم من هذا كله، لم تصل اليوم لأنفي رائحة السمك الطازج، تلك الرائحه النفاذه التي يلتقطها أنفي عن بعد، اليوم بالذات لم أدقق بأنواع السمك مطلقا. مع أن هذا الأمر هو إحدى هواياتي الأولى والمفضله، لأن السمك بالنسبة لي يعني الكثير. مجرد نظره لسمك السلطان إبراهيم، أو القراص، أو المشط، كانت كافية لأن تقيم بيني وبين السمك الراقد في الصناديق البلاستيكيه، نظرة واحدة فقط، قصة عشق تبدأ بحض معدتي على الإسراع في هضم ما كنت قد القيت في جوفها على العشاء، وتنتهي فور سقوط السمك في الزيت الحار.
اليوم لا أدري ماذا حصل. كل هذه الأمور أفلتت مني تماما كما ينفلت الليل من النهار، حتى جو الرهبة والهيبة والجلال والسمو، الذي يخيم على شوارع المخيم والمدينة بسبب انتشار صوت القرآن الكريم المنبعث من كل مذياع على الطريق، هذا الجو الذي كان يصعد بي فوق عالم الأرصفة والشوارع، ويسمو بروحي على أعتاب حرية غير محدودة، بلا أرجاء، ولا مسافات. هذا الجو لم أحسه اليوم، ولم أتلمس يفاعته وسموه وجلاله، لم يضرب قلبي بعمقه وفخامته، لماذا؟ ولماذا؟ وكيف قادتني خطاي كل هذه المسافة دون وعي أو تبصر؟ هل أصبت بداء المشي أثناء النوم؟
وعلى عتبة المقهى، خرج طوفان التساؤلات من رأسي وكأنه أنتزع انتزاعا، كالعشبة حين تنزع من جذورها. الا أن الشعور المبهم ما زال يحيا بأعماقي ويكبر، كنت أحس بانتشاره في ذاتي كرذاذ المطر، يبدأ بالانتشار بحنان في الأفق، ثم يكبر ويتحول الى عاصفة غضبى، تضرب الأفق والأرض زخات مطر لا يرحم.
كان المقهى يتمتع برائحة مميزه، وجو مميز، وكان البخار المتصاعد من غلايات القهوة وأباريق الشاي فوق مساحة المقهى، يغلف الجو بدفء خاص، وضبابية غير منفره. أما رائحة القهوة الزكيه، الحبيبه بمذاقها، فقد كانت تتطاير كحبات لؤلؤ الى الخارج، وليس هناك من يستطيع أن يثبت حين تمتزج رائحة القهوة هذه مع رائحة التمباك الصاعده من النراجيل المتعددة.
هذا الجو المتداخل كان يلهب خيالي، يستفز انفعالاتي بصورة واضحة، ولم أكن أستطيع تفويت مثل هذه الفرصة علي يوما واحدا، الا حين تحكم الحياة مشيئتها القاسية بخطوات يوم من أيامي.
كنت أسرح ببصري الى الشارع الممتد خارج المقهى، لكن صوت النادل وهو يختلط بصوت الزبائن، وقرقرة النراجيل، كان يستقر في أذني واضحا.
- (وعندك واحد شاي مع نعنع ). (واحد قهوه على الريحه ).
- (أهلا أبو علي، الله يصبحك بالف خير، والله نورت القهوه ).
- (بوجودك والله ).
- (واحد قهوه على كيفك لحبيبنا أبو علي، قهوة أبو علي عصملي ).
ويغيب النادل ليعود حاملا صينية عليها فنجان القهوه وكوب الماء، ويقول وهو يسكب القهوه لأبي علي:
- (والله إنك بدعت البارحه، صحيح أنه كان رايح يغلبك، لكن الزهر بعرف صاحبه ).
- (كله حظ، الدنيا غالب ومغلوب ).
- ( صحيح يا حج، بس النصر الو لذه، والغلب غلب، خلصنا والله ما في أصعب من الغلب، الغلب خازوق، خازوق كبير ).
- (هو خازوق بعقل، لكن خازوق بستيره ولا خازوق بفضيحه ).
- (أيوه، هاي الحكي الصحيح ).
ويغيب النادل بين صفوف الطاولات من جديد، ويبدأ أبو علي صباحه بعد حبات المسبحه التي في يده مرات ومرات، دون أن يشعر بأي ملل. وكنت أرقبه كثيرا، لأنه يذكرني بأستاذي أحمد الهودلي، حين يحين درس المحفوظات، هذا الأستاذ كان عاشقا للغة العربية، وكأنها امرأة خلقت وهي تحمل كل مواصفات الجمال والروعه، ولكن لتشاهد، لا لتلمس. عليك أن تحفظ كل مسامة من مساماتها، كل مسحة من مسحات جمالها، دون خطأ، دون ارتباك، حتى لا تشوه هذا الجمال أو تنتقص من قدره.
درس المحفوظات، المسبحه، أحمد الهودلي، اللغة العربية، كلها أركان، أربع خطوط تشكل مربعا مرعبا في نفوسنا. لأن الأستاذ يبدأ بعد الأخطاء على حبات مسبحته، فمع كل خطأ تنزلق حبه، وكل حبه في النهاية، هي لسعات حارة من مطرا ق الرمان على أكفنا الصغيره. كان يضربنا وكأننا إرتكبنا كبيرة من الكبائر، وكأننا مزقنا شرف اللغة، وفككنا عذريتها بطريقة محرمه. ولا سبيل أو طريق لمعالجة الجريمه سوى مطرا ق الرمان وهو يهوي على أقفيتنا كأفعى أو أقدامنا، وإذا دخلت الرحمه، فعلى أكفنا. كان وجه الأستاذ يتجمر غضبا وهو يصرخ ( اللغة هي الجمال، الجمال هو اللغة، هذه اللغة، لغة الله، لغة الجنه، لغة القرآن. عليكم أن تعرفوها، أن تتقونها كما تعرفون وتتقنون أسماءكم ).
وجوه المقهى مالوفة عندي، وهي لا تثير في الإنسان أي شيء، بسيطة، عاديه. لها هوايات ممضة وثقيله، لا تتجاوز في طبيعتها ورتابتها أي وصف، إنها ببساطه، هوايات قتل الوقت. ( فالشده ) التي تسيطر على مجموعه، (وطاولة النرد )، حالات السهوم التي تشبه الإغفاء في اللاشيء، كلها حركات الية تمارس يوميا، أكثر من مره، وعلى نفس النسق. كنت أجلس أرقب هذه الوجوه الطيبه، الوديعة، وهي تناضل الوقت، الساعات، برتابة ودون فائدة.
هم رجال أقعدهم الزمن، بكل تناقضاته، هم رجال حكم عليهم الأستعمار أن يذووا ظلما، زورا، بهتانا، من أجل أن يحيا قادمون من المجهول مكانهم. زمن الأستعمار هذا، أصدر حكمه عليهم بأن يكونوا عجائز، لا يعيشوا في لحظاته وثوانيه. – بالنسبة لهذا الزمن – زمن الاستعمار – هؤلاء لا يعنون شيئا. لذا يجب أن يعيشوا حياتهم الباقية بين أرقام ورق اللعب وأحجار النرد، هذا وقتهم الآن. أنا أعلم بأنهم جميعا كانوا راضين بهذا الحكم. رغم علمي أيضا بأنهم لم يكونوا مدركين للحكم الصادر عليهم إدراك المتأمل. كانوا يمارسون الأمر على أنه حالة طبيعية، لذا فإن إحساسهم بهذا الحكم، هو إحساس التعود الذي لا فائدة من التفكير فيه، أو حتى لا ضرورة لذلك.
كنت أرثي لهم، ولكن دون أدنى شفقه. أنا أعلم بأن هؤلاء مخ حياتنا كشباب، وأننا بدونهم نفقد نور الشباب المتالق بوجوهنا، وكنت أحس عميقا بأن هؤلاء هم الأصل، ونحن الفرع. لذا فإن وجوههم كانت تتبدى لي تزخر بالسماحة والوقار، وفوق هذا كله، الالفه الشديدة التي كانت قائمة بيني وبينهم.
لم يكن يثيرني من هؤلاء شيء، ولم يكن ليثيرني أي شيء في المقهى، لولا وجود ذلك العجوز الغريب، العفن، وذلك الكلب القزم الراقد دوما بين قدمي العجوز المنفرجتين.
كان غريبا عن المدينه، لم يبدأ ظهوره فيها الا من وقت قصير. كان سمينا، مترهلا، كبير الرأس، أشعث الشعر، أما أنفه فكان بارزا جدا وبصورة غير متناسقه وكأنه ركب على وجهه تركيبا. أما عيناه فكانتا صغيرتان أكثر مما يجب، وتشبهان الى حد ما، ثقبا صغيرا في الأرض، قياسا بأنفه المركب، وحواجبه الكثة الغليظه. أما أذناه، فهما تشبهان صحنان مليئان. لم يكن فيه شيء سوي، حتى كلبه الصغير، فهو أيضا يثير التقزز، وكأنه أكتسب قذارته من صاحبه أو العكس. كانا متشابهين في كل شيء. ويبدو أن كلا منهما كان سعيدا بهذا التشابه، فالعفونة الشديدة التي كانت تظهر على رقبة الرجل بين تجاعيد الترهل، هي نفس العفونة التي تظهر على ذيل الكلب وظهره.
كنت أحس بشوق عارم لمجالسة هذا الرجل, محادثته, لا يمكن أن يكون هناك شخص يأتي من فراغ. لابد وأن يكون وراءه شيء ما, أما هذا الرجل, فقد كان إحساسي بأن وراءه أمر ما, غير عادي، بأي شكل من الأشكال, هذا يبدو واضحا, ملموسا, من نظرات عينيه, من صمته العميق, بعده عن الناس, مسكته لخرطوم النرجيله, إرتجافة أصابعه, سهومه في جلد كلبه فترات طويلة, قذرا ته. كل هذه الأمور تؤكد أن هناك شيئا ما, شيء غير عادي.
ولكن أنًى يكون لي معه حديث, وهو كالراهب يحيا في صومعة معزولة عن العالم, عن البشر. لا بد وأن يكون هناك مدخل لهذه الصومعة, لكني لحد الان لم أستطع اكتشافه أبدا. كانت تظهر وكأنها من غير مدخل, حتى كلبه اللعين هذا, يخيل الي أنه يدرك سبب الصمت الذي يغلف صاحبه تماما، لذا فهو يقدسه تقديسا تاما، لا ينبح أبدا. آه كم تمنيت أن أسمع نباحه، حتى ولو لمرة واحده. إذا لوجدت المدخل نحو هذه الصومعة الحجرية الصلبه، آه منه هذا الكلب اللعين. أذكر ذات مرة أني تعمدت أن أدوس ذنبه وأنا خارج من المقهى، تعمدت ذلك بصورة وحشيه، قاسيه، فظه، لأحمله على النباح، لكنه فطن للأمر، نظر الي بانكسار واضح، هز ذيله ليسقط الغبار عنه، وولج بكسل قاتل بين قدمي صاحبه وكأن الأمر لا يعنيه.
أما اليوم، اليوم بالذات، فقد رافق إحساس الغموض الذي انتابني في الصباح الباكر، إحساس متفجر، متسلط، لا بد من خطوة أولى نحو هذه الصومعه، لا بد من محاوله، لا يهم إن كان مصير هذه الخطوة الفشل، المهم أن تبدأ المحاولة، (ثم ما الذي يقف بينك وبينها )؟ قلت لنفسي ( ها هي أمامك، تلمسها بلا رهبه، بلا وجل، بلا خوف، وإن لم تجد لها مدخلا ، عد، عد، لا عيب في ذلك، لكن أن تقف تاركا الحيرة تنهبك، أن تقف عاجزا، هذا هو العيب بعينه ).
إنتصبت واقفا ونفسي تمور بالرضا والغضب في آن، نظرت اليه بتحد، تأملت وجه الكلب من جديد، حدقت طويلا في جلد الكلب ورقبة الرجل. لم أستطع أن أفرق بينهما. تقدمت وقد أصبح صدري خاويا من كل شيء. الأسئلة التي كنت سأوجهها اليه، التخلص من حديثه بسرعة حتى لا تدفعني رائحته للتقيؤ، عضة الكلب، كل هذه الأمور قفزت من رأسي، من ذاكرتي، قفزت بعيدا، بعيدا جدا، ومع ذلك تقدمت:
- صباح الخير.
والتفت وجوه المقهى نحوي، تملؤها الدهشة، ويملؤها التحسب والتوقع، إنتشر الصمت مرة واحده، فرقعة الزهر، إحتكاك ورق الشده، صوت النادل، قرقرة النراجيل، أيمان الطلاق المغلظة، كل هذه الأمور غابت، إنعدمت، دون إنذار أو توقع. وأصبح الجو مشدودا الى حد التوتر الخانق، تدلت خيوط العرق من خدي الى عنقي، أحسست وجهي يفح بخارا حاد السخونة، ورأيت الحمرة المتفجرة منه أمام عيني.
تملكني شعور العار، المذله، حتى أنه لم يكلف نفسه عناء النظر الى وجهي. أنا الآن لا أطمع في محادثته أبدا، لا يهمني أمره، فقط لو يحرك يده، يشتمني بأعلى صوته، يضربني بذيل كلبه لو شاء. المهم أن يخلصني من المأزق الذي أوقعت نفسي فيه، يرفعني من هذا الوحل الجاثم على صدري.
- صباح الخير يا سيدي.
خرجت مني رغم تقطع أنفاسي ولهاث الوحل على صدري فخمة جزله، وكأنها موجهة الى ملك متسلط، غاص الوحل بقلبي أكثر. لو يرفع عينيه فقط، لا، لا أريد منه ذلك، فلينبحني كلبه، نبحة مبحوحة، متحشرجة، هذا يكفي. أيها الكلب اللعين، يا إبن الكلب، خلصني من السخرية المرتسمة في العيون المسمرة نحوي، خلصني ولك علي أن آتيك بكيلو لحم، لحم أحمر لم تذقه منذ زمن بعيد. لكنه لم يشأ، لم يسمع توسلاتي، كنت أقف إنسانا كاملا، أنبض بالحياة، تجتاحني عواصف مدمره من الأنفعالات والأحاسيس، هذه العواصف تكفي إثباتا على إنسانيتي، ولكن دون جدوى. مسحت جبيني أكثر من مره، وبالكاد إستطعت أن أخفي إرتعاشة قدماي. فركت عيني بشده لأزيل غمامة العار التي بدأت تتشكل فوقي بقوه، خلعت يدي من جيبي، حملت قدماي خطوة، كنت أستند على الهواء لئلا أقع على الأرض. هززت الرجل بيدي بعنف حانق.
سقط الرجل على الأرض، ككومة نفايات ثقيلة لزجه، أسندت نفسي على يدي اللتين إنتصبتا على الطاولة كعامودين من الصخر. تمزق الصمت مرة واحده، إندفع الجالسون كالذباب نحو الرجل وأصواتهم ترن في أذني ( الرجل ميت )، ( مات وبيده خرطوم النرجيله )، ( مات، سبحان الله، ما في واحد عرف أنه ميت ). تقلصت أعصابي، ودب في جسدي تحجر هائل، لم يرف لي طرف، صدمني الهول الأتي من المفاجئة، شلني شللا تاما، كاملا، حتى الناس التي بدأت تتدافع من الخارج وأصواتها المتداخلة تعلو، لم تدفعني نحو الحقيقة قيد شعره.
وصلت سيارة البلديه الخاصة بالموتى، دفعوا بالحماله الناس المتجمهرة بكثافة ليشقوا الطريق نحو الجثة، وحين وصلوها قلبوا الرجل على جنبه بمهارة فائقة ودفعوا الحماله جانبه، فلما حاذته تماما، قلبوا الرجل من جديد مع دفعة صغيره، فاستقر الجسد فوق الحماله.
إصطدمت عيني بوجهه وكأني أراه لأول مرة، كانت نظراته البارزة من عينيه الجاحظتين تتجه نحوي مباشرة، نظرات باردة، بليدة، لم يغير الموت فيها شيء، ومع ذلك نفرت عقرب سوداء كريهة، لدغت شفتي، أفرغت سمها فيها، عصرته عصرا، كدت أختنق لولا الملاءة البنية التي نثرت فوق الجثة فغطتها.
أندفع الرجال بالجثة المسجاة على الحمالة من بين الناس بسرعة، ودفعت الحمالة بحركة ماهرة داخل السيارة. حاول الكلب الاندفاع نحو الجثة، لكن الباب كان قد أغلق، وعلا نفير السيارة فبدا مزعجا، قاسي النغمات، وسارت السيارة مسرعة. في هذه اللحظة بالذات، علا نباح الكلب بصورة مسعورة وهو يطوي الأرض وراء السيارة لا يلوي على شيء.
تفرق الناس وهم يلوكون الحديث بسيرة الميت الغامضة على المقهى والمدينه. وعاد الجميع الى ما كانوا عليه. فتشابكت قصة الموت مع فرقعة النرد واحتكاك أوراق اللعب. الموت، موت الرجل أمر عادي، عارض، ينسى بسرعة مذهلة حين لا تستجيب أرقام النرد لراميها، فيبدأ بإرسال صواعق شتائمه على الحظ المقلوب، ثم يهدأ بسرعة مذهلة ليعاود إستغراب قصة الموت المفاجىء.
تملكني الملل الشديد، هاجمتني حيرة حادة لاذعة، أيقظت إحساس الغموض الفياض في صدري كزوبعة عارمة محملة بالأتربة والعرق. تفرست الوجوه الموجودة في المقهى من جديد، بدت لي غريبة، بعيدة ملامحها عن ذاكرتي. الآن، وفي هذه اللحظة بالذات تعوم صورتهم في بحر ضبابي كثيف، مثلما كانت تبدو لي وأنا أنفث دخان دخينتي بهدوء أمام وجهي، لأحدق من خلال الدخان المتصاعد بكثافة في وجوههم. كانت تبدو آنذاك قاتمة، مترجرجه، تظهر ثم تختفي. الآن أكاد لا أتبين ملامحها مطلقا وسط بحر من الضباب الذي يلفها لفا كاملا.
خرجت من المقهى دون إرادة، ولغير وجهة، يرافقني الإعياء الشديد بسبب تقلصات أعصابي، ويأكلني شعور المبهم، والنار تلفح وجهي وجسدي بحرارة شديدة، والدخان ينتشر في خلايا دماغي، أسودا، مظلما، يتلوى كعربيد جريح في أكثر من موضع.
هذه المدينة، مدينة طول كرم. أعرفها جيدا، شوارعها، مقاهيها، سياراتها، خيولها، حميرها، قنوات المياه الملتوية بين زقاق المخيم، بياراتها، حواريها، حتى مسامات الأرض المسفلته وغير المسفلته، أعرفها مسامة مسامه.
غريبة علي اليوم بكل ما فيها، كل نبضة حب نبضها قلبي من اجلها، أندم عليها، أرثيها. الشوارع التي طالما احتضنت خطاي، أشعر اليوم برغبة عارمة للثأر منها، ومن قدمي. المدينة ليست شوارعا، أو كتلا إسمنتية متراصة بجانب بعضها البعض، ولا حبة زيتون ناضجة مثل حلم قاتل، ولا عرق زعتر، أو حبة لوز، وليست سوقا تتناحر الأقدام فيها كي تثبت نفسها فوق شوارعها وأرصفتها.
المدينة هي الناس، بانفعالاتها، أحاسيسها، بدموعها، فرحها، بدمائها، بروحها وموتها. هي التشابك في الحياة الزاخرة النابضة في التضاد الذي يختلف ليلتقي، ليتوحد، ليصبح كلا، صلته بالجزء معدومة لا تظهر. لكن هذه المدينه، بلا قلب، بلا روح، خاوية الإحساس، تمور بالمتناقضات العارمه الطافية على السطح، والمستقرة بالأعماق.
هي مدينة المحبة والكراهية. تنجب في لحظه مئة رجل، لتقتل في اللحظة ذاتها الف رجل، تعانق السماء بشموخها، وتسحر أنوثتها الرجولة، وتتمطى شبقة أمام دودة. تفيض علما، وتسح من كل جوانبها جهلا، تنعش الآمال، وتفتك بالأحلام، تضمك لصدرها حنانا، تلفظك فظاظة وقسوة.
أحبها حبي للجنة، أمقتها مقتي لجهنم، هي فوق الوصف، وهي لا تستحق أن يقال فيها كلمة.
مسكين هذا الرجل، هل كان يعرف عنها شيئا؟ نعم، يقينا. والا ما قذف نفسه بأحضانها دون غيرها، ولا، يقينا. والا لكان أختار مدينة غيرها، هو الآن لقمة بأمعائها، تعصره عصرا لتأخذ منه كل ما تبقى، تعتصره بوحشية، بأنيابها الغوليه الحادة، لتدفعه فوقها من جديد، شجرة حنظل أو عليق. وربما شجرة مسك أو عنبر. لا أحد يدري، حتى ولا هو. مستبدة هي بكل شيء، حتى أنها لم تساله، لم تستشره في مثل هذا الأمر، كم هي قاسيه.
ولكن ما الجدوى من إستشارته؟ ولماذا تضعه في موقف حائر؟ لماذا تعذبه برغبة الاختيار؟ فلتتحمل هي مشقة الأمر، وتدوس على الإبر والأشواك وحيدة، لتتحمل هي كل الآم هذا الاختيار، ثم لتتحمل ولوحدها نتائج اختيارها. أما هو فليرقد بسلام، هانىء العين، مطمئن الضمير، كم هي حانية هذه الأم؟
والكلب، ذلك القزم الضئيل المقزز، ما الذي حل به بعد موت صديقه؟ أي مشاعر تتنازعه وتتحداه؟ مسكين هذا الكلب، كيف سيرتاد الشوارع دون حماية؟ وكيف سيدخل المقهى؟ هل هناك من يحس بإحساسه الآن، هل سيقدم أحد له عزاء بصديق عمره؟ لا، لا أظن ذلك.
شيء واحد، واحد فقط، هو الذي انتشلني من دوامة المجهول الأحمق التي استبدت بكل نفسي، شيء واحد فقط، مشهد الكلب القزم وهو مهروس الرأس على الشارع ودماغه مختلطة بدمائه، وعجل السيارة المطبوع فوق الخليط المركز من الدم والدماغ.
أحسست النشوة تغزو أعماقي، وعضة الجوع أيقظت معدتي، فانفلت من أفكاري كالسيل حين يفلت من حاجز. عدت نحو البيت ورائحة السمك تعبق بأنفي، وصوت النادل ينساب بأذني بعمق رائق:
- ( واحد قهوه دبل للأستاذ مركز، ومزبط، وعالكيف ).