الحق الضائع
د. عمر فوزي نجاري
عيناه الواسعتان اتساع الفضاء اللامتناهي , العميقتان عمق البحر , كانتا تسرحان في الأفق البعيد , وقد شردتا حيث الماضي القريب يجثم على صدره شبحا من تعاسة كئيبة , تقرأ على قسمات وجهه وفي عينيه وحديثه وحركات شفتيه .
كان شيخا جاوز الثمانين من عمره , ذا لحية بيضاء تتخللها بعض أشعار سوداء تضفي على اللحية رونقا خاصا , وتزيد من هيبة الشيخ ووقاره , وقد اتكأ على عصاه المعقوفة جاعلا منها مسندا ليده اليمنى , أمٌا يده اليسرى فكانت مصابة بالشلل وعاجزة عن القيام بوظائفها .
وقبل أن أنهي انطباعي لمبدأي عنه بادرني بقوله :
أنا لست متسولا , ولم أقصدك لحاجة , فأنا والحمد لله مقتدر , لقد علمني الإسلام أنٌ اليد العليا خير من اليد السفلى , وأنٌ اليسير من الله تعالى أكرم وأعظم من الكثير من غيره , ألم يقل الله سبحانه وتعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )) .
هزتني كلماته هذه , بقدر ما فاجأتني , إذ لم يسبق لي أن التقيت بالشيخ أو تعرفت عليه , فإذا لماذا قصدني ؟ !. ولماذا يتجه إليٌ بكلماته هذه ؟.. أسئلة محيرة عديدة أخرى بدأت تطفو علٌها تجد جوابا مقنعا يبرر الموقف أمامي , إذ لمٌا كنت طبيب أطفال فقد اعتدت أن أستقبل في عيادتي أطفالا مرضى بصحبة أمهاتهم أو آبائهم أو إخوتهم أو حتى أجدادهم , عدا بعض الحالات الاستثنائية التي يزورني فيها بعض الأصحاب أو الأصدقاء لإلقاء السلام والتحية , أمٌا الشيخ الجالس أمامي , فلم يسبق لي أن رأيته , كما أنٌه دخل عيادتي وحيدا ولا يرافقه طفل مريض .
كنت لا أزال أتأمله , بوجهه المدور وإطلالته المشرقة ونظراته العميقة , بلحيته البيضاء المنقطة بالسواد , بحاجبيه البيضاوين العريضين , وحركات شفتيه وهو يتكلم ومن خلالهما كان بياض أسنانه الاصطناعية المرصوفة جنبا إلى جنب مع أسنان مذهبة يضفي على وجهه رونقا خاصا من الهيبة والوقار ...
ويبدو أنٌ الشيخ بفطنته وخبرة أعوامه الثمانين استطاع أن يقرأ ما يجول بخاطري من أفكار , إذ سرعان ما تدارك الأمر موضحا : قصدتك للحصول على الموافقة الطبية المطلوبة لقبولي نزيلا في دار الرعاية الاجتماعية للعجزة .
اعتدلت في جلستي وقد تنبهت لوجود الشيخ أمامي , بعد أن أدركت غرضه من زيارتي , وأخذت أطرح عليه بعض الأسئلة الطبية المتعلقة بحالته الصحية تمهيدا لإجراء الفحص الجسماني له , إذ يفترض فيه أن يكون خاليا من الأمراض السارية والمعدية وغير مصاب بمرض خطير يتطلب الاستشفاء كي يسمح له بدخول دار رعاية العجزة للإقامة فيها مع بقية النزلاء , وخلال معاينتي له سألته عن سبب رغبته في الإقامة في دار رعاية العجزة وعما إذا كان لا بملك مسكنا يقيم فيه ... ويبدو أنٌه كان يتوقع مثل هذا السؤال وأنٌه مستعد مسبقا له , إذ سرعان ما انطلق لسانه ليقص عليٌ حكايته الطويلة وكأنه يريد أن يزيح عن كاهله حملا ثقيلا أقضٌ مضجعه , إذ على الرغم من امتلاكه لعدة مساكن ولكونه أبا لثلاثة عشر ولدا وللعديد من الأحفاد وعلى الرغم من تفاوت المناصب الاجتماعية لأبنائه من القضاء إلى الجيش إلى التعليم. وعلى الرغم من إمكانياته المادية الجيدة وعدم احتياجه لأبنائه ماديا , إلاٌ أنٌه يعاني من إهمال أبنائه وزوجاتهم له , لدرجة أنهم تخلوا عن خدمته نهائيا ...
مما دفعه ليتخذ قراره النهائي بالتخلي عنهم نهائيا أيضا . إنٌ من نكد الدنيا عليه أن لم يرزقه الله بولد صالح واحد يستطيع أن يعتمد عليه في شيء وأنٌه من هذا المنطلق فضٌل اللجوء إلى دار الرعاية وأنٌه على أتم الاستعداد ليتبرع بكل ما يملكه للجمعيات الخيرية بدلا من تركها لورثته الذين جهلوا حقوق الأبوة أو تجاهلوها .
قلت له: أرجو أن لا تتسرع في إطلاق أحكامك وأن تتريث كثيرا قبل اتخاذ أي قرار.
أجابني وقد اغرورقت عيناه بالدموع :
لقد ذابت الثلوج وانكشفت الأرض عن تربة صخرية غير قابلة للزراعة , ألم يقل الشاعر:
إنٌ الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب
وهكذا هم أبنائي , لقد سخرت حياتي كلها في تربيتهم وتعليمهم وصرفت عليهم عرقي ودمي ودموعي , وها أنا اليوم أجد نفسي وقد بنيت أحلامي وآمالي على كثبان رملية سرعان ما حملتها الرياح بعيدا فانهارت أحلامي وآمالي وأنهار كل شيء في حياتي.
أيٌها الحكيم من جاد بماله جلٌ ومن جاد بعرضه ذلٌ ... وأنا على استعداد لأصرف كل ما لدي من مال فيما تبقى لي من هذه الحياة على أن أعيش ذليلا بين أبنائي وزوجاتهم .
كانت كلماته تخرج من أعماق قلبه صادقة معبرة , تنم عن معاناة شديدة وتألم شديد , عن أزمة التواصل بين جيلين مختلفين ينتمي كل منهما إلى زمانه وبيئته , فلكل جيل همومه وأشجانه , وما أكثر الهموم والأشجان في أيامنا هذه .