الحمد لله رب العالمين, ولا عدوان إلا على الظالمين, اللهم صل على محمد وعلى آل
محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما
باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد, وبعد:
فإن من أعظم الجاهلية تحليل ما نهى الله عنه أو تحريم ما أمر الله به؛ قال
تعالى: ((ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرم لتفتروا على الله
الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ))
وإن العالمانية المهينة لا تشكل خطراً في نفسها على الإسلام نفسه في أية مواجهة
فكرية أو غير فكرية؛ إذ أن دين الله غالب, ولكن الأمر أخطر ما يكون إذا تعامل
الإسلاميون ـ أو من يظنون أنفسهم كذلك ـ مع الجاهلية العالمانية محاولين
التماشي والتماهي معها أومريدين الإحسان والتوفيق وإياها للوصول إلى حلول وسطية
وهو خطأ وخطر كذلك؛ فإنما تنقض عرى هذا الدين عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من
لا يعرف الجاهلية, فلابد أن تكون نقطة البدء إذاً في التعامل معها هو التمايز
عنها والاستعلاء عليها.
وفي هذا السياق ـ وهذا السياق فقط ـ تنبغي معالجة قضية النقاب وغيرها من
قضايانا الملتهبة على خط الصراع مع العالمانية البغيضة, وأي معالجة أخرى إنما
هي حيدة مضلة أو غفلة مخلة.
فالنقاب اليوم ـ وغيره من شعائر الهدي الظاهر إنما تمثل في حقيقتها محك الصراع
كرمز وشعار وهوية للطرف المؤمن فيها, فهو الراية السوداء التي ينبغي أن تبقى
مرفوعة, وليس هو قطعة من القماش تخلعها المسلمة أو تضعها متى شاءت دفعاً لمضرة
محذورة أو جلباً لمصلحة منظورة.
وما يزال اللباس ـ أي لباس ـ ناطقاً باسم الحضارة ومعبراً عن الثقافة فالإنسان
إذا تكلف غير لباس بيئته أو شعار قوميته كان كشجرة التين ترتدي لحاء البلوط ..
بل إن لقضية اللباس أهمية ووظيفة أخرى أكثر تعقيداً, فكما أن الغطاء الظاهر
للبدن هو انبعاث لمكنونات الإنسان الداخلية ومعبراً عن هويته الحضارية؛ فإنه
كذلك له أثره البالغ وانطباعاته العميقة على شخصيته في علاقة تبادلية بين السبب
والنتيجة ..
ولذا اهتم الإسلام بقضية اللباس فجعل المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور, ولا
يصلي المرء في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء, ونهى الرجل عن لباس الخيلاء
كالإسبال وحرم عليه الحرير لرقته الأقرب لنعومة الأنوثة, بل جعل للحاج والمعتمر
لباساً خاصاً في لونه وهيئته يورث الاجتماع ويذكر بالكفن فيرقق القلوب, وهكذا
..
والمرأة في تبرجها وسفورها إنما تفقد من حيائها وتتبذل من أخلاقها بمقدار
وكيفية ما ينكشف من جسمها فيما يشبه النزيف والجرح؛ فهي تعلم أن إيعاز اليسير
غير إغراء الكثير وشهوة الفادح أنكى من تدسس السادح وأن ما يسبب اختلاس النظر
أقل جداً مما يودي إلى فعل القذر, ويصير الفرق في كل هذا كنسبة بين ما تنتهبه
الأعين العابثة وما تدركه الأيدي اللامسة, وعلى هذا فكل ما تكشفه إنما هو أصلاً
لانكشاف مثله في مستور نفسها وما ينفرج عن جسمها إنما هو لخلل في كامن أخلاقها.
ولكل ما ذكر فإن المنقبة اليوم غير مخولة بترك النقاب إلا لضرورة لا يتم إلا
بها قوام الحياة لا زخارفها ولا متاعها الزائل ولا لعاعتها البالية, وشعارها في
ذلك: ((إن وليي الله الذي ينزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)), ودثارها: ((إني
توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط
مستقيم)).
وليس من العقل ولا المروءة أو الرجولة أن نطالبها بذلك وحدها فأنى لربات الخدور
أومن ينشئ في الحلية وهو في الخصام غير مبين أن تقف لهؤلاء لترد عاديتهم ـ
وحدها ـ عن بيضة الإسلام.
ألا رجل يأتي من أقصى المدينة يسعى لينصر تلك المستضعفة المدفوعة بأبواب
الجامعة كما لو كانت تتسول؟!
أو واقف بكلمة الحق ليصد عنها من يطردها من قاعة الامتحان؛ فإما ثبتها ثبته
الله أو طرد معها؟!
ألا موظف يأبى أن ينفذ أوامر المستكبرين الذين ما لانت قلوبهم لفتاة في عمر
بناتهم تبكي قهراً بغير جريرة ؟!
إن هؤلاء وغيرهم هم ممن قال الله فيهم: ((قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم
ينتهون)), فليعتذروا ولو بكلمة يقولونها من أفواههم وإن الكلمة لخطيرة خاصة في
وقتها وإن الموقف الأبي لعزيز في غير زمانه والعبد لا ينسى من ينصره في ضائقته
فكيف ينسى الله ـ حاشاه ـ من يقوم له بالموقف والكلمة في حق وقتها وأوان
قطافها, ولكنه سيجعل لهم يوم القيامة وداً وسيخلفها لهم في أعقابهم كما قال
تعالى: ((وجعلها كلمة باقية في عقبه)).
وأهم ما تكون الكلمة وأحق ما يكون الموقف أحوج ما يكون الأمر إليهما, قال
تعالى: ((ثم جئت على قدر يا موسى))؛ أي أحوج ما يكون الأمر إليك, وإلا فما يجدي
التأصيل والاستدلال؟ وما يغني تبيان الحكم ومطالبة النساء بلزومه؟
وحري بنا هنا أن نركز على قضية الفصل بين الموقف والكلمة, فإن الله امتدح
المؤمنين لتطابق كلماتهم وأفعالهم وسبق عملهم لأقوالهم وإنما ينشأ عندهم
التنظير من التطبيق؛ قال تعالى مادحاً أصحاب الكهف: ((إذ قاموا فقالوا ربنا رب
السموات والأرض)), بينما ذم الله المنافقين بأنهم: ((يقولون ما لا يفعلون)),
كما وأن من أهم خصائصهم أن الأصل عندهم هو التقعيد والتنظير مع القعود و
التخذيل قال تعالى: ((الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا)).
ولذا كان من أعظم مقاصد الجاهلية في كل أزمانها هو الفصل بين الكلمة والموقف
حتى يبقى دين الله حبيس الصدور ولا يصبح يوماً ما منهجاً حياً يعيش به الأحياء.
ومشكلتنا أننا نريد كل شيء أو لا شيء فنحن نريد النصر في معركة النقاب اليوم
كاملاً غير منقوص وهذا في تصوره خلاف سنة الله الجارية على الأغلب في مواجهات
القوى غير المتكافئة وإنما يكفي المؤمن أن يقوم لله بما يستطيع من قول الحق
والمدافعة به ولو لم يجد كبير أثر من وجهة نظره فالنصر قد تحقق بمجرد أن قال
كلمة الحق أو قام لله بالحق وأما النتائج فهي توابع النصر وآثاره لا أنها عينه
وحقيقته.
تفهم هذا من قصة أصحاب الأخدود وسحرة فرعون وغيرهم كثير في تاريخ المحاربين
القدامى في هذه المعركة العتيدة القديمة بين الحق والباطل.
هذا .. وإن من ورائكم فتن القاعد فيها خير من القائم وإن من ورائكم أيام الصبر,
وليأتين زمان يربط الرجل فيه نسائه وأهل بيته بالحبال ألا يخرجوا فيفتنوا ..
يا عباد الله فاثبتوا.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ..
كتبه/ خالد سعيد