د. أحمد عبدالعزيز مليجي قال تعالى (وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ
فِي الأَرْضِ وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون : 18)
لقد كان القدماء يعتقدون أن باطن الأرض هو المصدر الوحيد لكل المياه التي
تجري فوق سطحها، ولقد ظل هذا الاعتقاد راسخاً في أذهان العلماء إلى عهد ليس
ببعيد. ولقد ورد في كتاب قواعد الجيولوجيا العامة والتطبيقية (1972م) صفحة
321 أن العالم الهولندي أثناسيوس كيرشر (Athanasius Kircher) كتب في سنة
1665م في كتابه (عالم ما تحت الأرض) يقول إن جميع الأنهار والجداول تنبع من
بحيرات ومستودعات مائية شاسعة تحت الأرض. ولكن كيرشر لمس شيئاً عجيباً وهو
أنه بالرغم من جريان الأنهار بشكل مستمر وتدفقها في المحيط فإنه لا يمتلئ
أو يفيض! ولذلك فقد اقترح أن هذه البحيرات والمستودعات الباطنية لابد وأنها
تستمد معينها من ماء المحيط نفسه، ولم يفسر هذا الاقتراح كيفية ارتفاع
المياه عن مستوى البحر إلى أماكن انبثاقها في أعالي الجبال، وكيف تتخلص
مياه البحار والمحيطات من ملوحتها، وتتخزن في باطنها، ثم تتفجر ينابيع
وجداول وأنهارًا. لقد ظلت مثل هذه المشكلات ألغازا حتى أواخر القرن السابع
عشر خاصة عندما بدأ العلماء والمفكرون يفطنون إلى أن دورة الماء من المحيط
إلى الأنهار لم تكن في باطن الأرض، ولقد ورد أيضاً في كتاب قواعد
الجيولوجيا العامة والتطبيقية (1972م) أن العالم هالي (Halley, 1748) أثبت
أن دورة المياه تكون خلال الجو عن طريق تبخر مياه البحار والمحيطات ثم
سقوطها أمطاراً (شكل 2).
ومن الجدير بالذكر أن مياه الأمطار الساقطة على الأرض تتوزع كما يلي:1 ـ جزء يتبخر مباشرة ويعود إلى الغلاف الجوي.
2 ـ جزء يجري على السطح وتتكون منه الأنهار والجداول ويسمى الماء المنطلق (Run-off).
3
ـ جزء يدخل إلى التربة ويتسرب منها إلى الصخور التي تحتها ويسمى الماء
المتخلل (Percolating water) والذي يتخلل إلى مستودعات المياه الجوفية.
والحقيقة التي تتضح جلية أن هذه النظرية العلمية التي أثبتت أن مصدر
المياه الجوفية من الأمطار لم تكن بجديدة في كتاب الله ـ عز وجل ـ حين أشار
إلى ذلك منذ مئات السنين بقوله سبحانه وتعالى: (
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ) (المؤمنون: 18). وأيضا قال تعالى: (
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ
يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا
إنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ) (الزمر: 21). وقال سبحانه وتعالى: (
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) (الحجر: 22).
ولم تكن دورة المياه الجوفية معروفة منذ عهد (أفلاطون)
ـ الذي أفترض: أن الرياح هي التي تقوم بدفع المياه إلى باطن القارات لتعود
إلى المحيطات من جديد ـ وحتى اكتشافها في القرن السادس عشر لتحل محل
النظريات البالية وذلك على يد (برنارد بليسي). وفي الواقع إن برنارد بليسي
لم يأتي بجديد فلقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة دورة المياه الجوفية منذ
مئات السنين والتي تتم خلال عمليات تشرب التربة المسامية بالمياه، ثم تتسرب
منها إلى باطن الأرض، وهو ما ينطبق تماماً على التعبير القرآني: (
فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ) (الزمر: 21).
والمياه الجوفية تكون في حركة دائمة وتتوقف سرعتها
واندفاعها على نوعية الصخور التي يتكون منها سطح الأرض في سماحها لاندفاع
المياه داخلها شكل (3).
ونستطيع إجمالاً أن نقول إن حركة المياه الجوفية في باطن الأرض تتوقف على ثلاث صفات رئيسية للصخور، وهذه الصفات هي:
1 ـ المسامية.
2 ـ الإنفاذ.
3 ـ الإمرار.
1- مسامية الصخور (Porosity)
يسمى
الصخر مسامياً (Porous) إذا كان يحتوي على فتحات صغيرة دقيقة بين حبيباته
تسمى المسام. وتقدر مسامية الصخور كنسبة مئوية لحجم الفراغ إلى الحجم الكلي
للصخر.
مسامية الصخر = حجم الفراغ الموجود في الصخر حجم الصخر كله × 100
وبهذه
النسبة يمكننا مقارنة مسامية الصخور بعضها ببعض. وهناك بعض العوامل الأخرى
التي تؤثر على درجة مسامية الصخور مثل وجود الشقوق والفواصل أو الفجوات
الصغيرة المتصلة شكل (4).
ويعطينا الجدول الآتي فكرة تقريبية عن مسامية بعض الصخور المختلفة كالآتي:
الصخر | المسامية % |
الطين | أكثر من 50 |
الصخر الطباشيري | حوالي 50 |
الرمل والحصى غير المتماسك | 20 ـ 47 |
الصخر الرملي المتماسك | 5 ـ 15 |
الصخر الجيري | 5 ـ 20 |
الصخر الجيري الدولوميتي | أقل من 5 |
الجرانيت (والصخور النارية الأخرى) | أقل من 1 |
الكوارتزيت | حوالي 0.5 |
ومن هذا يظهر أن الطين والصخور الطباشيرية أكثر مسامية من الصخور
الرملية، ومع ذلك فإن الماء يمر بسهولة خلال الصخر الرملي ولا يمر خلال
الطين والصخور الطباشيرية، ويرجع السبب في ذلك إلى خاصية أخرى تسمى
الإنفاذ.
نرى مما سبق ذكره الأهمية القصوى لمسامية الصخور في
جيولوجية المياه الجوفية. والحقيقة أن مسامية الصخور تتوقف على عدة أشياء
نذكر منها:
أولاً: درجة التقارب بين الحبيبات المكونة للصخر:
فالرمال التي حبيباتها متساوية أو متقاربة في الحجم أكثر مسامية من الرمال
المكونة من حبيبات مختلفة في الحجم، إذ تملأ الحبيبات الصغيرة الفجوات التي
بين الحبيبات الكبيرة، وبذلك تقلل من مسامية الصخر. (شكل 5).
ثانياً: شكل الحبيبات المكونة للصخر: فمن الواضح أنه إذا كانت الحبيبات
حادة، أي ذات زوايا، فإن الزوايا تدخل في الفجوات التي بين الحبيبات الأخرى
وتقلل المسامية.
ثالثاً: طريقة ترتيب (أو رص) الحبيبات: وتتوقف
طريقة رص الحبيبات غالباً على مقدار الضغط الذي وقع على الراسب بعد ترسيبه
نتيجة لتراكم الطبقات فوقه. أي أنه توجد علاقة مباشرة بين مسامية الصخر
والعمق الذي يوجد فيه تحت سطح الأرض.
رابعاً: درجة تماسك الصخر:
فإذا ترسبت رواسب كيميائية بين حبيبات الصخر أدى ذلك إلى تقليل مساميته.
فالصخر الرملي إذا ترسبت بين حبيباته أكاسيد حديد أو أكاسيد السليكون
(السليكا) أدى ذلك إلى تماسكه وفقدانه الجزء الأكبر من مساميته.
2 ـ الإنفاذ (Permeability):
هو
سهولة مرور الماء وسرعة تحركه بين حبيبات الصخر وهذا هو ما نسميه نفاذية
الصخور. فالطين مثلاً صخر غير منفذ، بينما الرمل منفذ جيد، والسبب في ذلك
أن حبيبات الطين دقيقة جداً، ولذلك فإن الماء يُمسَك في هذه المسام بواسطة
الخاصية الشعرية، وعلى ذلك لا يسمح الطين بمرور الماء فيه بل يمتصه ويبقيه
بداخله، أما الرمل فإن حبيباته كبيرة نسبياً ومتباعدة بعضها عن بعض، فيمر
الماء خلاله بسهولة ويسر.
3 ـ الإمرار:
هناك صخور تسمح بمرور
الماء فيها بالرغم من أنه ليس بها مسام تذكر بين حبيباتها. فالجرانيت
مثلاً مساميته ضئيلة جداً، وكذلك الصخر الجيري الدولوميتي، ولكن غالباً ما
تسمح بمرور الماء فيها، وذلك لوجود شقوق وفواصل تعمل كأنابيب تسمح بمرور
الماء. فالماء هنا لا يمر خلال الصخر نفسه بين حبيباته بل يمر خلال هذه
الشقوق والفواصل.
ومن هنا نستطيع تقسيم الصخور بالنسبة لدراسة المياه الأرضية إلى أربع أنواع هي:
1 ـ صخور مسامية منفذة للمياه الأرضية، مثل الرمل.
2 ـ صخور مسامية غير منفذة، مثل الطين.
3 ـ صخور غير مسامية وممره، مثل الحجر الجيري.
4 ـ صخور غير مسامية وغير ممره، مثل الكوارتزيت.
من الصفات السابقة نجد أنه قد أمكن تقسيم المياه الأرضية إلى نوعين:
1 ـ المياه الأرضية الحرة والتي لا يقيد حركتها إلا الجاذبية الأرضية.
2 ـ المياه الأرضية المقيدة والتي يقيد حركتها وجود طبقة مانعة كالطين ـ مثلاً ـ إما فوقها أو تحتها أو كلاهما معاً.
مما
سبق يتضح أنه من نعم الله علينا أنه قام بتسكين المياه في مستودعاتها تحت
الأرض وذلك من أجل الإنسان وحياته والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن (هل
من الممكن أن يهرب الماء من مسكنه؟).
الإجابة بنعم إذا أراد الله ـ عز وجل ـ ذلك وتظهر كذلك الإجابة واضحة جلية وذلك في نفس الآية السابق ذكرها، حيث قال عز من قائل: (
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون:18). حقاً لقد أتي التهديد من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على
إمكانية زوال نعمة تسكين الماء وهروبه من مستودعه تحت الأرض، ولقد ذكر ابن
كثير في تفسيره لهذه الآية حيث يبين المولى ـ عز وجل ـ بأنه لو شئنا أن لا
تمطر السماء لفعلنا ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار
لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقى لفعلنا، ولو
شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه
إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا ولكن
بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذباً فراتاً زلالاً فيسكنه في
الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض فيفتح العيون والأنهار ويسقي به الزروع
والثمار تشربون منه ودوابكم وأنعامكم وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون
فله الحمد والمنة.
مما سبق ذكره نستطيع أن نؤكد أنه من تمام نعم
الله علينا أنه تولى بقدرته القيام بتهيئة المستودعات من أجل تسكين المياه
في أماكنها، والحقيقة أنه يجب علينا أن نشكر الله ـ عز وجل ـ على هذه
النعمة التي ننتفع بها ليل نهار، ولولا رحمته بعباده لجعل المياه العذبة
المسكنة مياه مالحة غير صالح للاستخدام ولا ينتفع بها الإنسان والحيوان
والنبات، كما بين ذلك في كتابه العزيز، قال تعالى: (
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 70). ولو شاء الله كذلك لأزال كل العوامل التي تؤدي إلى تسكين
المياه مما يؤدي إلى هروب الماء في باطن الأرض، كما قال تعالى: (
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) (الـمُلك: 30).
إنه منهج علمي دقيق يبين لنا مصادر المياه الجوفية
وتسكينها تحت الأرض وكيفية حركتها لتكوين الينابيع والجداول والأنهار، وكل
هذه الحقائق العلمية التي أمكن التوصل إليها وإدراكها والتي تصير في غاية
الدقة والتقدير، فلقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرناً أو
يزيد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدراً لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير
الله الخالق ـ تبارك وتعالى ـ، فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته
وقدرته، ولتبقى هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية،
شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله، وأن سيدنا ونبينا محمداً ـ صلى
الله عليه وسلم ـ كان موصولاً بالوحي معلماً من قبل خالق السماوات والأرض،
وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة.
المراجع:
ـ القرآن الكريم.
ـ تفسير ابن كثير.
ـ قواعد الجيولوجيا العامة والتطبيقية ـ د.محمد إبراهيم فارس ـ د.محمد يوسف حسن ـ د.مراد إبراهيم يوسف ـ 1972م.
ـ جغرافية مصر الطبيعية ـ الجوانب الجيومورفولوجية ـ د.محمد صبري محسوب ـ 1998م ـ دار الفكر العربي.
ـ نهر النيل (نشأته واستخدام مياهه في الماضي والمستقبل) الطبعة الأولى، دار الهلال، القاهرة.
ـ مواقع الإنترنت.