الأستاذ الدكتور /زغلول راغب محمد النجاريشير
القرآن الكريم في عدد من آيـاتـه إلى الكـون وإلى العديد من مكونـاتـه
(السماوات والأرض، وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات، والظواهر
الكونية المختلفة) وتأتي هذه الإشارات في مقام الاستدلال على القدرة
الإلهية التي لا تحدها حدود، وعلى العلم والحكمة البالغين في إبداع هذا
الكون، وذلك في معرض محاجة الكافرين والمشركين والمتشككين، وفي إثبات حقيقة
الألوهية لرب العالمين. وعلى ذلك فإن الآيات الكونية في القرآن الكريم لم
تأت من قبيل الإخبار العلمي المباشر وذلك لسببين:
أولهما: أن القرآن الكريم هو في الأصل
كتاب هداية، كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات، وهي من القضايا التي لا
يمكن للإنسان أن يصل فيها إلى تصورات صحيحة بجهده منفردا، بل الإنسان محتاج
فيها دوما إلى الهداية الربانية، وإلى الوحي السماوي.
وثانيهما: أن التعرف على الكون واستقراء
سنن اللّه فيه، وتوظيف تلك المعارف والسنن في عمارة الحياة على الأرض، وفي
القيام بواجب الاستخلاف فيها قد تركت كلية لاجتهاد الإنسان عن طريق
ملاحظاته المنظمة، واستنتاجـاته المنطقية على فترات طويلة من الزمن، نظرا
لاطراد السنن الإلهية، ولحدود القدرة الإنسانية، وللطبيعة التراكمية
للمعرفة العلمية. ولكن لما كان القرآن الكريم هو كلام اللّه الذي أبدع هذا
الكون بحكمته وقدرته، ولما كان من المحال أن يتعارض واقع الخليقة مع حديث
خالقها عنها، كان لابد وأن تحتوي الآيات القرآنية التي تتعرض للكون
ومكوناته على عدد من الحقائق التي لو استفاد بها المسلمون لكان لهم قصب
السبق في اكتشافها. ومن هذه الآيات الكونية في كتاب الله ما يتعرض للأرض،
التي جاء ذكرها في أربعمائة وإحدى وستين آية كريمة، منها ما يشير إلى الأرض
ككل، ومنها ما يشير إلى سطحها الخارجي الذي نحيا عليه أي إلى غلافها
الصخري، وهذه الآيات التي تضم عددا من حقائق علوم الأرض يمكن تبويبها في
المجموعات التالية:
1- آيات تأمر الإنسان بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق، وهي أساس المنهجية العلمية في دراسة علوم الأرض.
2-آيات عديدة تشير إلى شكل وحركات وأصل
الأرض، منها ما يصف كروية الأرض، ومنها ما يشير إلى دورانها، ومنها ما يؤكد
على عظم مواقع النجوم، أو على حقيقة اتساع الكون، أو على بدء الكون بجرم
واحد( مرحلة الرتق)، ثم انفجار ذلك الجرم الأولي (مرحلة الفتق) أو على بدء
السماء في مراحل خلقها الأول بغلالة دخانية (مرحلة السديم)، أو على انتشار
المادة بين السماء والأرض (المادة بين النجوم) أو على تطابق كل السماوات
والأرض (أي تطابق الكون).
3 3- آية قرآنية واحدة تؤكد على أن كل الحديد في كوكب الأرض قد أنزل إليها من السماء.
4-آية قرآنية تؤكد على حقيقة أن الأرض ذات صدع، وهي من الصفات الأساسية لكوكبنا.
5-آيات قرآنية تتحدث عن عدد من الظواهر
البحرية الهامة من مثل ظلمات البحار والمحيطات (ودور الأمواج الداخلية
والخارجية في تكوينها)، وتسجير بعض هذه القيعان بنيران حامية، وتمايز
المياه فيها إلى كتل متجاورة لا تختلط اختلاطا كاملا، نظرا لوجود حواجز غير
مرئية تفصل بينها، ويتأكد هذا الفصل بين الكتل المائية بصورة أوضح في حالة
التقاء كل من المياه العذبة والمالحة عند مصاب الأنهار، مع وجوده بين مياه
البحر الواحد أو بين البحار المتصلة ببعضها البعض.
6-آيات قرآنية تتحدث عن الجبال، منها ما
يصفها بأنها أوتاد، وبذلك يصف كلا من الشكل الخارجي( الذي على ضخامته يمثل
الجزء الأصغر من الجبل) والامتداد الداخلي (الذي يشكل غالبية جسم الجبل)،
كما يصف وظيفته الأساسية في تثبيت الغلاف الصخري للأرض، وتتأكد هذه الوظيفة
في اثنتين وعشرين آية أخرى، أو دورها في شق الأودية والفجاج أو في سقوط
الأمطار وجريان الأنهار والسيول، أو تكوينها من صخور متباينة في الألوان
والأشكال والهيئة.
7- آيات قرآنية تشير إلى نشأة كل من
الغلافين المائي والهوائي للأرض، وذلك بإخراج مكوناتها من باطن الأرض، أو
تصف الطبيعة الرجعية الوقائية لغلافها الغازي، أو تؤكد على حقيقة ظلام
الفضاء الكوني الخارجي، أو على تناقص الضغط الجوي مع الارتفاع عن سطح
الأرض، أو على أن ليل الأرض كان في بدء خلقها مضاء كنهارها.
8- آيات تشير إلى رقة الغلاف الصخري للأرض، وإلى تسوية سطحه وتمهيده وشق الفجاج والسبل فيه، وإلى تناقص الأرض من أطرافها.
9- آيات تؤكد على إسكان ماء المطر في
الأرض مما يشير إلى دورة المياه حول الأرض وفي داخل صخــورها، أو تؤكد على
عــلاقة الحياة بالماء، أو تلمح إلى إمكــانية تصنيف الكائنات الحية
10-آيات تؤكد على أن عملية الخلق قد تمت على مراحل متعاقبة عبر فترات زمنية طويلة.
11- آيات قرآنية تصف نهاية كل من الأرض
والسماوات وما فيهما (أي الكـون كله) بعمليـة معاكسة لعملية الخلق الأول
كما تصف إعادة خلقهما من جديد، أرضا غير الأرض الحالية وسماوات غير
السماوات القائمة.
هذه
الحقائق العلمية لم تكن معروفة للإنسان قبل هذا القرن، بل إن الكثير منها
لم يتوصل الإنسان إليه إلا في العقود القليلة الماضية عبر جهود مضنية
وتحليل دقيق لكم هائل من الملاحظات والتجارب العملية في مختلف جنبات الجزء
المدرك من الكون، وإن السبق القرآني في الإشارة إلى مثل هذه الحقائق بأسلوب
يبلغ منتهى الدقة العلمية واللغوية في التعبير، والإحاطة والشمول في
الدلالة ليؤكد على جانب هام من جوانب الإعجاز في كتاب الله، وهو جانب
الإعجاز العلمي، ومع تسليمنا بأن القرآن الكريم معجز في كل أمر من أموره،
لأن الوحي السماوي الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم بنفس اللغة التي
نزل بها (اللغة العربية)، ومحفوظ بحفظ الله كلمة كلمة وحرفاً حرفاً، إلا أن
الإعجاز العلمي يبقى من أنجع أساليب الدعوة إلى الله في عصر العلم، ذلك
العصر الذي لم يبق فيه من وحي السماء إلا القرآن الكريم، بينما تعرضت كل
الكتب السابقة على نزوله إما للضياع التام ؛ أو لضياع الأصول التي نقلت
عنها إلى لغات غير تلك التي نزل الوحي السماوي بها، فتعرضت لقدر هائل من
التحريف الذي أخرجها عن إطارها الرباني على الرغم من إيماننـا بأصولها
السماوية، وتسليمنا بصدق تلك الأصول، ومن هنا تتضح أهمية القرآن الكريم في
هداية البشرية في زمن هي أحوج ما تكون إلى الهداية الربانية كما تتضح
أهمية دراسات الإعجاز العلمي في كتاب الله مهما تعددت تلك المجالات
العلمية، وذلك لأن إثبات صدق الإشارات القرآنية في القضايا الكونية مثل
إشاراته إلى عدد من حقائق علوم الأرض، وهي من الأمور المادية الملموسة التي
يمكن للعلماء التجريبين إثباتها لأدعى إلى التسليم بحقائق القرآن الأخرى
خاصة ما يرد منها في مجال القضايا الغيبية والسلوكية (من مثل قضايا العقيدة
والعبادة والأخلاق والمعاملات) والتي لا سبيل للإنسان في الوصول إلى قواعد
سليمة لها وإلى ضوابط صحيحة فيها إلا عن طريق بيـان ربـاني خالص لا يداخله
أدنى قدر من التصور البشري.