تأملات في آية { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف: 28] .
توجيه إلهي كريم , وآية عظيمة بما فيها من الأسرار والتأملات يخص بها الرب جل وعلا نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.
" يروى أنها نزلت في أشراف قريش , حين طلبوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطرد فقراء المؤمنين من
أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً , إذا كان
يطمع في إيمان رؤوس قريش أو أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس هؤلاء النفر لأن
عليهم جباباً تفوح منها رائحة العرق فتؤذي السادة من كبار قريش وسادتها.
لذا جاء التوجيه السماوي لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يتحول في نظره واهتمامه
عن أولئك الذين يلتجئون إلى الله في جل أوقاتهم ويبذلون كل ما يستطيعونه
لأجل إرضاءه والفوز بجناته , وأن لا يتجه إلى غيرهم ابتغاءً فيما عندهم من
عرض الدنيا الزائف والذي مآله إلى الفناء .
وإن المتأمل لهذه الآية الكريمة والتي نزلت لهذا السبب الذي قضاه الله وقدره يجد من الأسرار الغائرة بين حروفها وفي معانيها الشيء الكثير وأذكر منها :-
أولاً :- أن هذا الدين العظيم هو دين تربية وتعليم وتوجيه , دين يريد من أتباعه أن يسلكوا سبل النجاة ,
وأن يتبعوا طريق الحق , فالشارع الحكيم في هذه الآية الكريمة يبين لنا أن
القيمة الحقيقية التي يجب أن تحملها نفوس المؤمنين هي قيمة الإيمان
والعقيدة وتلكم العقيدة هي التي يرتاح لها العقل السليم , ويقرها الطبع
المستقيم , وهي تدعو إلى اعتقاد أن للعالم إلهاً واحداً لا شريك له , أولاً
لا ابتداء له , وأخراً لا انتهاء { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11].
وعلى تلك النفوس أن تتبرأ من حمل قيم الذل والهوان المتمثلة في إتباع صور الدنيا الخادعة .
ثانياً : في الآية أمر بالصبر , والصبر خلق إيماني فريد , وبه
تظهر معادن الرجال , وفيه الخير الكثير, وهو باب من أبواب العون على قضاء
مصالح الدنيا والدين قال تعالى : {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45] .
وهو
أنواع ثلاثة : صبر على طاعة الله تعالى , وصبر على ترك معصيته , وصبر على
قضاءه وقدره , والتوجيه بالصبر هنا يدخل في النوع الأول الصبر مع أولئك
الذين عليهم قيام هذا الدين , وعليهم تقام الدعوات , مع النخبة الطاهرة ,
والجيل الفريد , أصبر معهم يا محمد جالسهم وحادثهم وعلمهم فهم بذلك كله
أولى من قريش ومما طلبتك إياه تجاههم.
وهنا توجيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على لزوم العلماء الربانيين , والدعاة الصالحين , وحضور مجالسهم , وتلقي العلم منهم بنية صادقة لله تعالى .
ثالثاً
:- إن نفس المؤمن هي القاعدة الأساسية التي تنطلق منها مجموعة العبارات
الربانية التي دعا لها الرب جل وعلا ودعا لها نبيه عليه الصلاة والسلام
كمراقبة الله تعالى والخوف من الله تعالى وتحقيق معنى التقوى في القلوب
والإخلاص وغيرها.
وما دامت نفس المؤمن كذلك فيجب علينا تنقية نفوسنا من كل الشهوات والشبهات , وتطهيرها من الأحقاد والضغائن , وهو عنوان فلاح , قال الله تعالى : (( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )) [الشمس: 9 - 10] .
ولأهمية
النفس تلك جاء التوجيه في الآية الكريمة بأن نفس المؤمن يجب أن تكون صابرة
, ويجب تدريبها على ذلك واختبارها بين الفينة والأخرى مع اختلاف المواقف
والأحداث .
رابعاً :- في الآية تفضيل للمقبلين على الله تعالى غداتهم والعشي , وهذا
تنبيه لنا جميعاً بوجوب الالتجاء إلى الله تعالى , والعودة إليه والصدق في
تلك العودة بدعاء صادق , ودمعة حارة , وأكف متوسلة , ورجاء لا ينقطع لله
جل وعلا.
قال تعالى : (( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً
عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا
نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) [ التحريم: 8] .
وقال تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } الذاريات50 ,
ولفضل هذه العبادة وهي الالتجاء إلى الله تعالى في كل حين فقد فضل أصحابها
من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم رغم فقرهم وعوزهم على سادات قريش
وكبرائها .
خامسا :- في الآية أيضاً توجيه آخر على وجوب لزوم الإخلاص في قوله تعالى : {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ... الآية } والإخلاص
هو أن تبتغي بقولك أو عملك وجه الله تعالى فحسب راجياً بذلك القول أو
الفعل خير ما عنده سبحانه وهو أحد شرطي العبادة , وهو منشأ قبول الأعمال ,
وأي عمل لا ينطلق من ابتغاء وجه الله تعالى به فهو مردود على صاحبه.
قال
تعالى :- {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاء ... الآية }البينة5 , إذاً فعلينا العمل لما ( يرضيه )
تعالى عنا , وأن نلزم مراقبته في شؤون حياتنا كلها , وان نستشعر علمه
وإحاطته بنا , وأنه الذي يعلم السر وأخفى .
سادساً :- في الآية تحذير من الاهتمام بزينة الحياة الدنيا , والدنيا التي أتخذها أصحابها مركباً
لنيل ما يريدون من الأطماع , ومن تأمل فيها جيداً علم بأنها لا تستحق منا
الاهتمام ما عدا ما يسوقنا إلى جنات رب العباد سبحانه وتعالى.
واعلم بأنها جميلة في الظاهر , قبيحة السرائر , وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها
فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها ولاموا
أنفسهم على أتباعها , وخجلوا من ضعف عقولهم في الاعتزاز بظاهرها .
سابعاً :- في الآية ما يدل على أن أولى الناس بالعناية والاهتمام والدعوة هم المسلمون , فلا يقدم كافر على مسلم , ولا يعلو على مسلمٍ كافر , بل ليس للكافرين على المؤمنين من سبيل.
وذلك
المعنى يتجلى في كون أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من أشراف
قريش ولكن صد وأعرض فمكانه في النار , وبلال عبد أسود حبشي لا نسب يحميه
ولا مال يفنيه ولا ولد يرثه ولكن أسلم وصدق في التجائه إلى ربه وفي متابعته
لمحمد صلى الله عليه وسلم فسمع ضرب نعليه في الجنة , ومثله صهيب وعمار
وسلمان . إلا أنما التقوى هي العز والكرم فلا تترك التقوى اتكالاً على
النسب فقــد رفع الإسلام سلمان فارس وقـــد وضع الشرك النسيب أبا لهب.
ثامناً :- في الآية أيضاً توجيه رباني بعدم طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وهم
والله بيننا كثر , فالدعاة لأبواب جهنم يتكلمون بألسنتنا ويعيشون بين
ظهرانينا كما جاء في ذلك عن محمد صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة ,
ولازال الكثير منا لهم تبعاً , وترونهم لا يألون جهداً في إفساد أمة محمد
صلى الله عليه وسلم , ولا يزالون يكررون دعواتهم الشيطانية الهدامة.
لذا فيجب كشفهم للناس وتحذيرهم منهم وعدم إتباعهم أو الميل مع دعواتهم , بل علينا ان نتبرأ منهم ومن تصرفاتهم وأن ننكر كل تصرف لهم فيه شر وخداع للأمة .
تاسعاً :- في الآية أيضاً سر بليغ ألا وهو التنبيه على واجب الدعوة إلى الله تعالى
فمع أن صحابة محمد صلى الله عليه وسلم قد آمنوا بما جاء به إلا أن هذا لا
يعني أن يغفلوا أمر الدعوة إلى الله تعالى , بل لا زالوا في حاجة إلى تعليم
محمد صلى الله عليه وسلم لهم واهتمامه بهم وتربيته لهم.
وكذا لا بد أن يكون كل داعية لله تعالى أن يهتم بالناس جميعاً في دعوته ,
وأن يلامس مشاكل واقعهم وأن يوجد لها الحلول , وأن لا تنتهي دعوته عند حدٍ
معين أو فئة معينة , فدعوة الداعية لمجتمعه قد تكون أبلغ في التأثير من
جهاده الأعداء.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى " وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام
إلى نحور الأعداء , لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس , وأما تبليغ
السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفائهم في أممهم " انتهى كلامه رحمه
الله .
عاشراً :- في هذه التأملات جميعها دعوة لنا بتدبر كتاب الله تعالى , وكشف أسراره ,
والغوص في أعماقه , وأن لا تكون قراءتنا له من باب فضول الأعمال , بل لا
بد أن نخصص له وقتا محدداً من يومنا نحفظ فيه من الآيات ونقرأ كلام أهل
العلم عنه , وأن نحصل على النور والشفاء والأجر المترتبة على قراءته قال
تعالى : "إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا " [الإسراء: 9].