محاسن ديننا الحنيف أكثر من أن يقصيها أحد , أو أن يحيط بجوانبها فرد , كيف وهي الشريعة الغراء , والدين القويم الذي ارتضاه الله لعباده , وجعله خاتم الأديان وأكملها .
ولعل
من محاسن هذا الدين أنه لم يغفل الجانب الدنيوي , ولم يتجاهل الجانب
المعيشي للفرد , بل أولاه العناية الفائقة , وحث أتباعه على الاهتمام به ,
وجعل الكسب والسعي على النفس والأهل من العبادات العظيمة , ومن سبل نيل
الأجر والثواب من الكريم المنان .
تأمل معي قول الله تعالى : (إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ
يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن
سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ..) .
يقول الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية : سوى
الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال
للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب
المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. ا. هـ
فالعمل
إذاً والكسب ليس عملاً دنيوي بحت , بل هو عمل جليل يُؤجر عليه صاحبه متى
ما كان فيه متبعا للشرع , ناويا من ورائه كل مقصد شريف .
في صحيح : الترغيب والترهيب " مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل
فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا يا رسول
الله ! لو كان هذا في سبيل الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن
كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله , وإن كان خرج يسعى على
أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله , وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها
فهو في سبيل الله , وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان ".
فتأمل كيف جعل النبي عليه الصلاة والسلام السعي على الأولاد وهم صغار في سبيل الله وصاحبه مأجور عليه, والسعي على الأبوين الكبيرين في سبيل الله ومما يتقرب به إلى الله , والسعي على النفس ليعفها في سبيل الله .
وانظر كيف صحح المفهوم لدى صحابته رضي الله عنهم أن سبيل الله ليس محصورا في الخروج للقتال فقط , بل هو واسع وشامل بسعة هذا الدين العظيم وشموليته .
في
كسب المال حفظ النفس عن ذل السؤال , وتعلق القلب بالله وتجرده من
المخلوقين . وفيه فرصة الصدقة , والإحسان إلى الناس , يقول عبدالرحمن بن
عوف رضي الله عنه: (يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأُرضي به ربي ) ولقد كان
سلفنا الصالح يعرفون فضل الكسب , بل يصل بهم الحال إلى أن يتمنوا الميتة
في سبيله ويجعلوها من أحسن الميتات .
يقول ابن عمر – رضي الله عنه - : ما خلق الله موته أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلى من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغي من فضل الله ضارباً في الأرض .
والعمل
الكسبي باليد من أطيب أنواع المكاسب , وأكثرها بركة , وأعظمها نفعاً
لصاحبها . في مسند الإمام أحمد من حديث رافع بن خديج قال: قيل: يا رسول
الله أي الكسب أطيب؟ قال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور".
ومما يعزز هذا الدعوة شكوى الكثير من قلة المال ,
وندرة الوظائف , وكثرة متطلبات الحياة , بل إن كثيرا من الناس يشكو الهموم
والغموم ولقد أثبتت الدراسات أن النواحي الاقتصادية وضيقها سببا لهذه
الهموم , بل ربما يؤدي ذلك إلى أسوأ من ذلك وهو عدم تأدية العبادة على أكمل
وجه وذلك لعدم راحة البال , وانشغال النفس بأمر المعاش .
كثير من الشباب يتمنى الزواج ويقف الحائل المادي دون تحقيق هذه الرغبة ,
حتى ربما وقع في الحرام , فنقول له : اسع في الكسب . وكثير منهم متزوج
ويشكو ضيق المعيشة مما أدى إلى كثرة المشاكل وربما وصل إلى حالات طلاق ,
فيقال لمثل هذا أيضا : اسع في الكسب .
ربما اعترض البعض بندرة الفرص , فيقال له هل جربت ؟
وان جربت فكم هي عدد المرات ؟ اعرف شاباً حاول أكثر من مرة في سبيل
التجارة وتعثر كثيراً , حتى فتح الله عليه لعدم يئسه , وحرصه على إعزاز
نفسه .
وقد يعترض آخر بعدم توفر رأس المال , فيقال له : إن
رأس المال القليل يجعل الله في البركة إذا صدق العبد في تجارته , يحدثني
أحد كبار التجار : أنه بدأ تجارته بمبلغ يسير احتاج للاستدانة معه , ولكن
سرعان مانمت تجارته , حتى قال لي : لم تمض سنتان حتى كان رصيدي أكثر من
ستمائة ألف.
وشواهد هذا كثيرة جداً, ولكنه الكسل وإيثار الراحة , فالرزق موجود , والرزاق باق وكريم , ولكن على العبد بذل الجهد .
وألفت النظر إلى أن هذه الدعوة ليست خاصة لمعاشر الرجال , بل هي دعوة للرجال والنساء على حد سواء , كلا في مجاله .
وفق الله الجميع لرضاه , وكفانا بحلاله عن حرامه , وأغنانا عمن سواه .