لفَت انتباهي حِرص التابعين في الدنيا على استِلاب عقول المتبُوعين من خلال إمكاناتهم التي يَستطيعونها؛
فهم يَعيشون في وظائفهم وأعمالهم وشتى شؤونهم ليبحثوا عما يُرضون به
أكابِرَهم، ويَحصُلوا به على رضاهم واستِحسانهم مهما كلَّفهم ذلك، وقد
يَصِلون وقد لا يصِلون.
والمؤمنون
الصادقون يريدون أن يُقدِّموا مايستطيعونه في إرضاء مولاهم وخالِقهم الذي
أوجَدهم من العدم، ورَزقهم من حيث لا يَحتَسِبون.
ولله - جلَّ جلاله - المَثل الأعلى فهو أعزُّ مَن تُبذَل المهجُ لأجله،
وتُقدَّم الأُعطيات لرِضاه؛ فقد أوضَح الله في كتابه الصفات والخِصال التي
يُريدها في عباده ليَحِل عليهم رضاه، ويَدلِفهم في مستقرِّ رحمتِه، ومِن
أشمَلها وأوجَزها ما أورَده الحق - تعالى - في سورة الفرقان عن خِصال عباد
الرحمن، فصار دليل المؤمن إلى ربه واضحًا، فلا عَتَمة في الوجود، ولا غبش
في المخطوط، إنما هو طريقٌ واضحٌ لمَن سلَكه وأراد غايته الحميدة.
ولعلِّي هنا أقِف مع الخِصال الواردة في السورة برُوح المتدبِّر علَّ الله أن ينفع بها الكاتب والقارئ، فإلى الآيات:
1. نسبهم الله لاسمه (الرحمن), وهو أعظم دلالة من غيره ,
يقول الحق:"وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ". قال السعدي -رحمه الله - بعد حديثه عن
أقسام العبودية الربوبية والألوهية, قال: "ولهذا أضافها (العبودية) الله
إلى اسمه"الرحمن" إشارة إلى أنهم وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته, فذكر أن
صفاتهم أكمل الصفات, ونعوتهم أفضل النعوت".
2.
من صفاتهم: التواضع ولين الجانب والذلة للمؤمنين , يقول الله: "وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً", وهنا تبدو صفة
المؤمنين في شؤون حياتهم اليومية, ففي تعاملهم اللين, وعلى محياهم وفي
أفعالهم حسن الخلق, وفي سيرهم في الأرض يجلو التواضع, لاتسمع لهم ضجيجاً
ولاصوتاً بل السير بالهوينى.
يقول ابن كثير-رحمه الله-: (وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياءً,
فقد كان سيد ولد آدم –صلى الله عليه وسلم- إذا مشى كأنما ينحط من صبب,
وكأنما الأرض تطوى له, وإنما المراد بالهون هنا: السكينة والوقار). وربما
نحمل هذه الصفة مجازاً على أرباب التغيير والإصلاح ممن ترى آثارهم ولاتسمع
قرع نعالهم.
3. من صفاتهم: الحلم والعفو, يقول الله: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63)",
قد تجدهم في المعمعة ومع الحمقى وفي الطرقات, لكنك لاتجد منهم سوى السلامة
في القول والفعل, لا تفتقدهم في سمتهم ودلهم, تعجب من قوتهم ومع ذلك صبرهم
واحتمال الأذى لتجد أنهم لايفعلوا ذلك مهانة وجبناً إنما هو الإيمان
والاحتساب.
4.
ومن تلكم الصفات: مسامرة الليالي مناجاة لله وسهراً مع كتابه. قال الله
عنهم: "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64)",
أرأيت عظم الوصف والبلاغة في الصورة؟ قال: يبيبتون, وهو تشبيه بلاغي عظيم,
فحب الناس للنوم هو حبهم للسجود والقيام ,وحاجة الأجساد للنوم مثل حاجة
أرواحهم الطاهرة للمثول بين يدي الله في الأسحار.
وعبر الله عن القيام بالسجود أولاً وهو جزء من الصلاة تعظيماً لشأن السجود وعظم ما يعطيه الله للعبد على سجوده, وعند العرب يعبر بالجزء عن الكل, أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لربيعة: (فأعني على نفسك بكثرة السجود).
ووصف
آخر ببلاغة عظيمة في سورة السجدة عن عباد الرحمن, يقول عنهم ربهم:"
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا
سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً
وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)".
وهنا تلازم بين الاتعاظ بالقرآن والعمل المباشر (وسيأتي التعليق على وصفهم بالاتعاظ والانزجار بآيات الله في موضعها)؛
حيث هجرت أجسادهم المضاجع ليتفرغوا لمناجاة الخالق- تبارك وتعالى - ,
واطّرجوا بين يديه في جوف الليل راجين رحمته الواسعة, خائفين من عذابه
الأليم, والله قد أثنى عليهم في حالهم هذه, ووصفهم بأبلغ الصفات وأعمقها,
فطوبى لمن كثر سجوده وقيامه بين يدي ربه.
5. من صفاتهم: الخوف من المصير الأخروي, وقد أورد الله ذلك هنا بصيغة دعائهم, فيقول: "وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا
كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66)", وقد
أوردها الله هنا بعد فعل الطاعات لاسيما قيام الليل والتهجد فيه, وقيام
الليل من خير عدة المؤمن للآخرة, واقرأ قول الحق تعالى في سورة الزمر:
"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ
الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الْأَلْبَابِ (9)".
لقد ارتبط مفهوم القيام مع الاستعداد للآخرة, وهذا هو دأب الأولياء وشعار الصالحين.
وقد
أورد الله تعالى العلة من الخوف من النار بوصف عذابها بأنه كان غراماً
وأنها ساءت مستقراً ومقاماً - نعوذ بالله من نار جهنم- , وهذا يعطي للعبد
أن يظهر حاجته للدعاء, وقد يبرر هذا السؤال مع علم الله به.
6. من صفاتهم: التوازن والاعتدال وإعطاء كل شيء حقه, قال سبحانه: "وَالَّذِينَ
إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَاماً (67)", إن بين البخْل والإسراف منطقَة الوسط والاعتِدال
التي يَعيها عباد الرحمن، وهي تأتي من خلال فَهْمهم الصحيح لمعنى الحياة
وإدراكهم لكنَّه الكَسْب والصرف، واستعدادهم للحساب الأخروي؛ فأثَرُ نِعم
الله عليهم واضحة من غير إسراف ومخيلة؛ يعيشون بقناعة فلا الدنيا لهم غاية،
ولا البذاذة عليهم مَنقَصة، تَوازُنٌ في العطاء، واعتدال في الكسب.
يقول سيد قطب - رحمه الله -: "المسلم - مع اعتراف الإسلام بالمِلْكيَّة الفردية المُقيَّدة -
ليس حرًّا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء - كما هو الحال في النظام
الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يَحكُم التشريع الإلهي حياتها في كل مَيدان،
إنما هو مُقيَّد بالتوسُّط في الأمرين الإسراف والتقتير، فالإسراف مَفسَدة
للنفس والمال والمجتمَع، والتقتير مِثله حبْس للمال عن انتِفاع صاحبه به
وانتفاع الجماعة مِن حوله، فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية".
وأورد الشنقيطي-رحمه الله- في هذه الآية مسألة ذكر فيها: (أن أصول الاقتصاد الأكبر أربعة:
أ- معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال. واجتناب الاكتساب به, إن كان محرماً شرعاً.
ب-
حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة مايبيحه خالق السموات والأرض, وما لا
يبيحه. ت- معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال واجتناب المحرم
منها. ث- حسن النظر في أوجه الصرف, واجتناب ما لايفيد منها, فكل من بنى
اقتصاده على هذه الأسس كان اقتصاده كفيلاً بمصلحته, وكان مرضياً لله جل
وعلا).
7. من صفاتهم: التوحيد الخالص, وصدق التوكل مع صفاء المعتقد, قال الله عنهم:
"وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ", عباد الرحمن كل
أعمالهم مُجرَّدة لخالقها، يعملون على إصلاح الباطن وتَزكيته أكثر مِن
عِنايتهم بظواهرهم، فتَستوي بواطنهم النَّقية مع ظواهِرهم، تَعمُر شجرة
التوحيد والإخلاص أفئدتهم لتؤتي ثَمارها في أقوالهم وأفعالهم اليانعة، لا
تشوب قلوبهم بَراثِن الشرك والشُّبهات والرياء، فهم أشد ما يكونون بُعدًا
منها، إنما هو إخلاص لله في شتَّى أعمالهم، حتى ولو كانت قليلة.
آهٍ لو رأيتَهم وهم يُخلِصون الوحدانيَّة والعبودية لأشفقتَ على كل مَن كانت أعماله قُربانًا للخلائق؛
حيث تتمايَز لك الحرية والعِتق من الهوى مِن الفريقَين. قال بشر الحافي:
"من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية فليطهر السريرة بينه وبين
الله تعالى"؛ الرسالة القشيرية (ص:311).
8.
من صفاتهم: عدم الأذية والاعتداء على الأنفس, قال الله: "وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ", ((المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده)), وقد وجَبت الجنَّة لصاحبها حين ذُكِر بخير مِن
شهود الأرض، والنار كذلك، دخلتِ امرأة صوَّامةٌ قوَّامةٌ النارَ بإيذائها
لجيرانها.
والبَغيُّ سقتْ كلبًا لاهِثًا ماءً فأدخَلَها الله الجنة! ما أعظمَه مِن دين يذهب بالناس إلى الأُلفة وبذْل الخير وصُنْع المعروف،
ويأخذ على يد المُعتدي؛ ليَحُدَّ ويَمنع الاعتداء والبغْي، فعباد الرحمن
لا تجدهم إلا مُسالِمين عافِين عن الناس لا اعتداء ولا ظُلم ولا تنافُس في
الدنيا، إن حمَلوا السلاح فَهم في مقدِّمة جيوش المسلمين لا يَضرِبون إلا
أعناق الأعداء فهم أعزَّة على الكافرين أذِلَّة على المؤمنين.
9. من صفاتهم: ليسوا زناة ولاأرباب رذيلة وفاحشة, قال الله: (وَلا يَزْنُونَ ..), وهذا يعطي مؤشراً حقيقياً لبعدهم عن مزالق الشهوات
وبغض أهلها فضلاً عن الوقوع بها, فمن كان لايزني فهو بلا شك يربأ بنفسه عن
خطوات الشيطان, وقد ذكر الله عن الكبائر السابقة (الشرك والقتل والزنا):
"وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69)", وهو دال على شناعة
الفعل وعظم الخطيئة.
10. من صفاتهم: الأوبة والتوبة العاجلة بعد مقارفة الذنوب, والتوبة خير للعبد وكمال له, فمهما
فعل وبلغت خطاياه فإن التوبة تجب ماقبلها, بل يبدل الله السيئات إلى
حسنات, وهو كرم وفضل منه تعالى, قال الله: "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)".
وأتت هذه الآية بعد أن توعَّد الله مَن يفعل الكبائر ليَلحَق بركْب العبودية إن زلَّت به القدم،
بل ربما سبَق من كان قبله إن صدَق في توبته وعمِل الصالحات حقًّا؛ لأن
الله يُبدِّل السيئات حسنات، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرِف آخِر أهل النار خروجًا من
النار، وآخِر أهل الجنة دخولاً الجنة، يؤتى برجل فيقول: سلُوا عن صِغار
ذنوبه، واخبؤوا كبارَها، فيقال له: عمِلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، عمِلت كذا
وكذا في يوم كذا وكذا، قال: فيُقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، قال
فيقول: يا رب لقد عمِلت أشياء ما أراها ها هنا)).
قال:
"فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحِك حتى بَدتْ نواجذه"؛ قال
أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وفي الآية وضَع الله آليَّة التوبة
المتقبَّلة: يبدأ بالتوبة والانشِقاق عن المعصية وأهلها، وآمن بالله
اعتقادًا في باطنه، وسلوكًا من خلال عمَله الصالح، وقد أتت طريقة التوبة
هنا مُرتَّبة بواو العطف الذي لا تجعل فرصة لتراخي الثاني عن الأول، بل
الصِّدق في التوبة يعني التزامُن في انطلاق هذه الأعمال.
يقول سيد قطب: "فالمعصية عمَل وحركة، يجب ملء فَراغه بعمل مضاد وحركة،
وإلا حنَّت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تُحِسُّه بعد الإقلاع،
وهذه لمحَة في منهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية
عميقة، ويؤكِّد الله تأكيدًا في شأن التوبة، دعوة للعاصي، واستِلطافًا
لقلبه: "وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
مَتَاباً (71)", فما أعظم رحمة الله، وما أوسَع فضله.
أخرَج ابن أبي حاتم عن مكحول قال: جاء شيخ كبير هَرم، قد سقَط حاجباه على عينيه فقال: يا
رسول الله، رجلٌ غدَر وفجَر، ولم يدعْ حاجةً ولا داجة إلا اقتَطفها
بيمينه، لو قُسِّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتْهم، فهل له من توبة؟ فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أأسلمتَ؟)) فقال: أما أنا فأشهَد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم -: ((فإن الله غافر لك غَدارتك وفجَراتك، ومُبدِّل سيئاتك
حسنات ما كنت كذلك، فقال: يا رسول الله، وغَدراتي وفجَراتي؟ فقال: وغَدراتك
وفجَراتك، فولَّى الرجل يُكبِّر ويُهلِّل)).
11. من صفات عباد الرحمن: لايشهدون المعاصي فضلاً عن أماكنها, قال الله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ), والزور:
جميع المعاصي, قال السعدي-رحمه الله-: ( القول والفعل المحرم, فيجتنبون
جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أوالأفعال المحرمة.. وشهادة
الزور داخلة في قول الزور).
وهنا
لطيفة رائعة في قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً
(72)) حيث عبّر الله عنهم بأنهم لايأتونها عمداً وقصداً, فهم وإن شهدوا
المعصية واللغو فإنما مروراً بمجالسها, وليس قصداً لها إلا لمصلحة. إنك تجد
عباد الله فيما يحب الله من أماكن, وتفتقدهم فيما يبغض الله من أماكن,
استجابوا لله في النهوض من أماكن معصيته والخوض في آياته, يقول الله تعالى
في سورة الأنعام: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)).
12.
من صفاتهم: الاتعاظ بآيات الله والإنزجار بها, يقول المولى-جل وعلا-:
"وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا
صُمّاً وَعُمْيَاناً (73)", وهذا شأنه عظيم , حيث أن المؤمن دوماً
تزيده الآيات إيماناً وطمأنينة, قال الله عنهم في سورة الأنفال: "إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)".
فهو مثلما يتحاكم إليها فيستشفي أيضاً بها, ومثلما يرتدع بها, فهو يطمئن
لها, يقول الله عنهم في سورة الرعد: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ (28)".
وتدبر
قول الحق: "لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً", فقد عبر الله
عن عباده بأنهم لايخرون على الآيات صماً وعمياناً دليلاً على أن الجوارح قد
تصح عضوياً, لكنها معطلة عن الفقه والفهم للهوى والضلال والسقم المعنوي
بها.
وقال تعالى: لم يخروا عليها صماً وعمياناً, حيث أنهم يسجدون مطيعين لله خاشعين كما عبر الله عنهم في سورة الإسراء:
"وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا
إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)", فما أجمل العلم
بالله, وفهم آياته للاتعاظ والخشية, وعدم ذلك يبعد المؤمن من قافلة عباد
الرحمن.
13. من صفاتهم: الحرص على صلاح الأسرة والعناية بها وسؤال الله ذلك,
قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ", فهم وإن أرادت ظروف
الحياة شغلهم, فلن تشغلهم عن ذويهم, وهو هدي محمد –صلى الله عليه وسلم- حيث
بدأ دعوته بأهل بيته فكان أول من آمن زوجه أم المؤمنين خديجة –رضي الله
عنها- وشملت العناية كامل أزواجه.
وانظر لفقه أمهاتنا كعائشة وحفصة وأم سلمة وزينب –رضي الله عنهن- وكيف صبر عليهن وغض الطرف عن أخطائهن
فاستمتع بعقولهن وآرائهن ودعمهن, فكانوا حقاً قرة أعين له –صلاة ربي
وسلامه عليه- ولم تقف عنايته هنا, بل حتى في حق بناته, فقد حرص عليهن في
التربية والتعليم, فزوجهن بالصالحين, وواظب على تلبية حوائجهن على انشغاله
بالأمة قاطبة-عليه الصلاة والسلام-. وعن قولهم: "هب لنا".
يقول السعدي بعد أن فسر "أزوجنا"بقرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات,
قال: (بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين, لأن بصلاح من ذكر, يكون
بصلاح كثير ممن يتعلق بهم, وينتفع بهم). هكذا عباد الرحمن أولوياتهم واضحة,
وتوازنهم حاضر في شتى مجالات الحياة. يقول الله تعالى في سورة التحريم:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً(6)".
14.
من صفاتهم: العمل الدؤوب في الإصلاح المجتمعي, والقدوة المقدامة دائماً في
ذلك, يقول الحق –تبارك وتعالى-: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
(74)", فهنا لم يكتفِ بأن يكون مع المتقين، بل إمامًا وقائدًا لهم؛ ليكون
شامَة في هداية الخَلْق، وعَلَمًا لهم في معالي الأمور، إنه لا يُزاحِم إلا
على المُقدِّمة، فلا وقت لديه لعدِّ ظهور الرجال.
15. أورث الله عباد الرحمن جزاءً من جنس أعمالهم, قال سبحانه: "أُولَئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً
وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76)",
فجزاؤهم غرفة علوية لعلو شأنهم وفعلهم وهمهم.
قال
السعدي في معنى الغرفة: (المنازل الرفيعة, والمساكن الأنيقة الجامعة لكل
مايشتهى وتلذه الأعين), ويُلَقَّون التحية والسلام نتيجة السير في الأرض
بالهُوَينى والسلام والعَفْو الذي قدَّموه في دنياهم لمن جَهِل عليهم،
ووهَب لهم حُسْن المستقرِّ والمقام؛ نتيجة الوقوف عند حدود الله،
والاتَّعاظ بآياته، والجهد البدني والعقلي في العمل والاجتهاد في تحقيق رضا
الله، ودعوة الأهل والناس جميعًا.
16. من صفاتهم: اللَّهج بالدعاء في كل شؤون ومتطلَّبات الحياتَين، والدعاء هو سرُّ توفيق العبد؛ قال
الله:"قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ
كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77)", أي: لايأبه الله بكم لولا
الدعاء, ولذا أتى الله هنا ببعض صفات عباد الرحمن بصيغة دعاء لهم,
"رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ
غَرَاماً".
"
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" فلولا فضل الله لما وُفق العبد
للعمل, وهي إشارة إلى أن العمل مستلزم الدعاء ليحصل التوفيق. أيها الأحبة
لقد مرَرنا على صفات عباد الرحمن.
وحسبي الإشارة هنا لهذه الخِصال التي يريدها الله في عباده، فلا أقلَّ من أن نستمسِك بحبلٍ لكل صفة؛ علَّنا أن نصِل، وهي
قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان ويَسيرة لمن وفَّقه الله - تعالى –
وتذكَّر: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ). اللهم
وفِّقنا لطاعتك ومَرضاتك، واجعلنا اللهم هُداة مهتدين، اللهم نسألك الفردوس
الأعلى من الجنة، ونعوذ بك من سخَطك والنار، لنا ولوالدينا ولأهلنا
وذُريَّاتنا وللمسلمين أجمعين.