اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الإفك المحنة البليغة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99265
 الإفك المحنة البليغة  Oooo14
 الإفك المحنة البليغة  User_o10

 الإفك المحنة البليغة  Empty
مُساهمةموضوع: الإفك المحنة البليغة     الإفك المحنة البليغة  Emptyالخميس 21 مارس 2013 - 20:53

الإفك المحنة البليغة

كانت عائشة زوج النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - معه في إحدى الغزوات، غادرت هودجها لحاجة لها، وأخرها فقدان عقدها الذي انسل من صدرها، تحرك الجيش ولم يشعر بغياب عائشة، خيل إليهم أنها قابعة في هودجها، استقرت عائشة في مكان الجيش الراحل على أمل عودتهم للبحث عنها، مر بها رجل كان مؤخرة للجيش فاحتملها وسار بها حتى لحقا بالجيش في وضح النهار، وجد المنافقون في الحدث فرصة لطعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنيل منه فاتهموا عائشة بالزنى مع الرجل الذي أوصلها إلى الجيش، وسقط في الإفك بعض المسلمين.

درس قاس للجميع، ربى الله - تعالى - به الجماعة المسلمة، وشرع به أحكاماً لضبط المجتمع المسلم. وأنزل الله - تعالى - قرآناً لمعالجة هذه الواقعة قال فيه: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) (11 - 22/24).

(1) الحب في بيت النبوة

كانت عائشة البكر الوحيدة بين نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها صغيرة السن، تفجرت عواطفها عليه، وتفتحت حواسها بين يديه، فتشبع كيانها بحبه، وارتوت خلاياها منه، وتمتعت روحاً وجسداً بمعاني المودة والرحمة.

لقد أساءت الحضارة المادية الحديثة لمعنى الحب، فرغته من روعته الإنسانية، وقصرته على علاقة جسدية حسية، لكن الحب الذي أراده الله متعة لعباده مسطور في منهجه، متحقق في بيت النبوة، ليقتدي الناس به، وكما يتعلمون الصلاة والزكاة وسائر العبادات، عليهم أن يتعلموا الحب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

هي الآن في الخامسة عشرة من عمرها، وهو ما يعني في الجو الصحراوي الحار امرأة كاملة النضج، ويعني أيضاً أنها سعدت مع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ست سنوات خلت هي عمر زواجهما.

فقد تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة الأولى من هجرته إلى المدينة، وهي الآن في السنة السادسة الهجرية.

وعائشة أسعد الزوجات على الإطلاق، فالمرأة تحب من يحسن معاشرتها، ويحترم إنسانيتها، ويبذل لها الحب الخالص في كلمة طيبة، ولمسة رقيقة، وحنو دافئ، وعطاء متجدد تجدد دقائق الزمن.

وتنبع سعادة عائشة من فيض النبوة الغامر، فزوجها الإنسان الكامل الذي رباه الله - تعالى - وزكاه ونصبه على قمة الدرج الإنساني الراقي ليكون قدوة للمؤمنين.

لهذا كانت نفسها تتوق في كل مرة يغزو فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تخرج عليها القرعة لتصحبه فيها، فحياته غزو متواصل، لا يلبث أن يرجع حتى يعود، وكان يقرع بين نسائه لترافقه إحداهن رحلته الجهادية.

في هذه الغزوة خاصة كانت عائشة تجد في نفسها إطمئناناً لفوزها برفقته - صلى الله عليه وسلم -، وكانت فرحتها عظيمة عندما أهدتها القرعة الطيبة قدر صحبة الرسول هذه المرة.

إنها تعلم أن الجهاد ليس رحلة ترفيهية، خرجت مع الرجال المجاهدين يوم أحد، كانت تحمل قرب الماء على ظهرها مع أخواتها المسلمات وتمر على الجرحى لسقايتهم والمساعدة في علاجهم.

كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس متفرغاً لها، فالجيش يقطع نهاره سيراً إلى هدفه المنشود، أما الليل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينتصب فيه لربه.

يكفيها أنها قريبة منه، أمام عينيها طوال الوقت، ترقبه من هودجها عند المسير، وتأنس بجواره ليلاً، وأنه لها وحدها من دون نسائه.

(2) القدر والعقد

مرت سريعاً أيام تلك الغزوة على عكس ما كانت ترجو عائشة، هذه سمة الأيام السعيدة، الأسطح الناعمة تدفع للانزلاق، فهي في سبيل الله، وبرفقتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، السعادة مكتملة إذاً.

قارب الجيش على الاقتراب من المدينة، ولعل هذا ما دفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس بالتحرك ليلاً على غير عادته، فاجأها أمر الرحيل، لذا قررت أن تتدبر أمرها سريعاً وتتجهز قبل الرحيل، غادرت هودجها وانطلقت بعيداً عن الجيش لتقضي حاجتها ثم تعود مسرعة لتكون مع القوم.

لاشك أنها كانت مشتاقة لرؤية أبيها، كل الناس يحبون آباءهم ولكن إذا كان الأب صدِّيقاً فالحب حتماً سيكون مضاعفاً.

ولاشك أنها كانت مشتاقة لشقيقتها الحبيبة أسماء، وافتقدت خلال رحلتها أخواتها اللاتي يشاركنها في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هن ضرائر ولكنهن صديقات حميمات خاصة زينب بنت جحش.

وكانت تجد في نفسها حنيناً جارفاً للمدينة، لها في قلبها مكانة خاصة، اقتربت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها، تعرفت عليه كما لم يتعرف عليه أحد من المسلمين، تعرفت على أدق تفاصيل حياته.

إذا كانت النفوس المؤمنة تحبه وتشتاق لرؤيته، وقد تبكي رغبة في النظر لوجهه الكريم حتى ولو مناماً، فإن عائشة كانت أحب الخلق إليه.

في طريق عودتها إلى معسكر الجيش خطر بمخيلتها والدتها أم رومان وهي تستقبلها فرحة بالقدوم، تحتضنها وتلمس كفيها بحنان الأمومة الدافئ كتفيها وذراعيها، وتأمر عينيها بمراجعة تفاصيل الجسد النحيل.

ذات المشهد الرائع ليلة أن زينوها وحملوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلقتها أم رومان بعقدها الذي كانت تلبسه للمرة الأولى، رأت الرضا والإعجاب في عيني أسماء بنت يزيد ليلة جملتها لرسول الله، وهي تنظر إلى جيدها المحلى بحبات العقيق الوردية ذات الخطوط المتوازية في دوائر بديعة، وألوانه المتدرجة التي تتألق تحت ضوء الشمس وتسكب انعكاساتها المبتهجة طوقاً نورانياً حول العنق النحيل.

تحركت أصابعها نحو جيدها وكأنها تشكر بامتنان عقدها، مفردة من مفردات تجملها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أصابعها تراجعت منتفضة، العقد ليس في جيدها، تحسست بكفها... أعادت ثانية، أرسلت عينيها علها تلتقط شعاعاً من حباته الملساء اللامعة...

انفرط العقد من الجيد، لم تكتشف غيابه إلا الآن، لابد أنه سقط منها في مكانها الأخير، عادت مدبرة إليه، انطلقت بعفوية لتبحث عنه، عليها أن تسرع لأنه سيغوص حتماً في الرمال، حركة الرياح الدائمة تقهر في طريقها حبات الرمال.

(3) وحدة أم أنس بالله

كانت فرحتها غامرة عندما رجعت إلى مكانها الذي كانت فيه، فوجدت حبات عقدها مازالت قابعة في انتظارها، جلست إليها، التقطتها بأصابع أم حانية، أودعتها كف يدها الآخر، نظرت إليها عاتبة، أحست بالحبات تعتذر، إنه قدر الله، الآن هي فرحة بعودتها لعائشة.

عندما عادت مسرعة انطفأت فرحتها فجأة، رحل الجيش، لا أثر لخيامه، لم تر إلا آثاراً لنار القوم التي كانت مشتعلة منذ قليل، أرسلت عينيها أملاً في إدراك اتجاه السير، ستائر الليل المظلمة سارعت بتغطية البساط الصحراوي الأصفر، في ليل الصحراء تتساوى الاتجاهات الأربع، لا يفطن إليهن إلا خبير.

أدركت عائشة أن الرجال حملوا هودجها وسرجوه في مكانه فوق ظهر ناقتها، لم يشكوا أنها خارج الهودج، مازالت فتاة صغيرة خفيفة الوزن.

عندما تتقلص الخيارات في واحد يصبح القبول به حكمة.

إذا افتقدوها في أول استراحة سيعودون للبحث عنها، لذا عليها أن تبقى، رحيلها في الظلام ضياع في تيه الصحراء، وبقاؤها وحيدة واقع موحش، كآبة ليل الصحراء مفزعة.

إنه العقد الذي أخرها، العقد مجرد سبب، إنها إرادة الله، فهي زوجة نبيه المحبوبة، وابنة الصديق، ولن يضيعها الله.

عندما حل بقلبها هذا الخاطر هدأت نفسها، غمرها إحساس بالأمان، سكنت سلاماتها، اطمأن القلب بعد الرجفة التي فاجأته، اتكأت على كومة رملية ناعمة، وتخيلت أنها على صدر رسول الله ونامت.

(4)- إنا لِلّه وإنا إليه راجعون. ظعينة رسول الله؟!

جاءها الصوت هادئاً فانتبهت، عندما فتحت عينيها كانت غلالات النور الطيبة تطارد ما تبقي من كتل ظلام الليل الباهتة. نظرت وراءها، رأته، وجه مألوف، إنه رجل صالح، صفوان بن المعطل، يجلس فوق ناقته آسفاً، اعتدلت في جلستها ولم تتكلم.

غالب الرجل حياءه وأناخ راحلته، وتراجع للوراء، ابتعد عن الراحلة.

قامت عائشة واعتلت الراحلة، جلست واطمأنت في جلستها.

عندما اطمأن صفوان لاستقرار عائشة وتهيئها للرحيل تقدم وأمسك بخطام الناقة وانطلق بها في صمت.

لم يكن صفوان يعلم أن تخلفه وراء الجيش لتأمين حركته وإلتقاط ما يخلفه وراءه، حلقة من حلقات القدر ليتحقق مراد الله.

غالباً ما يلتقط مؤخرة الجيش وتداً، أو كوز شراب أو صحفة، أو شاة شردت من راعيها.

من فوق الناقة راحت عائشة تنظر في الأفق القادم، تبحث عن بقعة مظللة فوق بساط الصحراء الأصفر، تتعجل أقدام الناقة حتى ترجع لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -.

(5) الإفك في المدينة الآمنة

كان الصمت هو الرفيق الحقيقي لرحلة عائشة، الصحراء تتمدد باسترخاء، ممتنة للشمس التي تتحايل على قطع السحاب السابحة في الفضاء لترسل ضفائرها الذهبية، وتبث دفئها في أعماق رمالها التي عانت قسوة الليل البارد.

الناقة الطيبة تختلس النظر إلى عائشة على استحياء، منتشية باللحظة التاريخية السعيدة التي منحتها حمل عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أما صفوان فهو يسحب حبلها المتدلي على كتفه. في اتجاه واحد حيث يعسكر الجيش.

أدرك الركب الصغير الجيش عند الظهيرة، تبسمت عائشة لرؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سرت في روحها انتعاشة بفرحة اللقاء.

اطمأنت الناقة في سجودها لتنزل عائشة في أمان، دلفت إلى هودجها واسترخت فيه.

كان لمشهد العودة إلى الجيش رؤية أخرى، العين ترى ولا تفسر، لكن الصورة عندما تقع في القلب تتطابق على ما فيه.

قرأت القلوب المريضة المشهد بعيني شيطان، الموكب الصغير مادة ثرية للغو، مساحة شاسعة يمرح فيها الشيطان، طعنة مؤثرة في قلب محمد.

هذه زوجه الصغيرة المحببة إليه عائشة، وابنة أحب أصحابه وأقربهم إلى قلبه، تتخلف مع أحد الرجال، رآها الجميع تركب ناقته وهو ممسك بقيادها.

ستحفر الواقعة حفرة كبيرة بمساحة يثرب، ويتساقطون فيها واحداً وراء الآخر، وغداً يا يثرب تبدأ معركة في جسدك، تنفجر فيك خلايا سرطان الإفك المجنونة.

(6) رأس الأفعى وسمومها

وجد عبد الله بن أبي بن سلول أن ترويج الإفك فتح ثقباً كبيراً في جدار صدره الصخري لتتفجر منه حممه المكبوتة، كلمات الإفك نفث ناري سيدمر الدولة التي صنعها محمد... المملكة الذي شيدها على أشلاء أحلامه.

كانت يثرب تنسج له ثوب ملكه، وترصع تاجه ليكون حاكمها التي تأتلف تحت إمرته، وبدأت خطواته ترقى درج عرشه..... حتى ظهر محمد، فتراجعت يثرب عنه وبايعته.

إذا كانت صفوة قريش فقدت مكانتها ببزوغ نجم محمد فإن ابن سلول فقد ملكاً أشرف على اعتلائه.

الانتقام يجب أن يكون على قدر الخسارة، إنها قاعدة إبليس التي طلب بموجبها الإمهال ليوم القيامة.

لهذا ركب ابن سلول شيطان الإفك على عائشة، خلخلة الصف المسلم تعني حرمانه من أهم ركائز قوته. من يدري؟

قد يغضب محمد غضبة تسقطه فيما ينهى عنه، فتخدش نبوته، وتسقط عصمته، ويفتح الفعل العصبي أبواب التشكيك في دعوته، والجرأة على شخصيته، فيتفرق عنه ما اجتمع، وتنحل عرى جماعته عروة عروة.

غضبة تفقده رصانته، ما قيل عن عائشة كفيل بتفجير النفوس الحكيمة، كلمات تصيب بالعمى، وتسل الروح من الجسد، وتفقد النفوس الرغبة في الحياة.

ما يغيظ ابن أبيًّ حقاً هو موقف محمد، الطعنة في شرفه، في أحب الناس جميعاً إليه، احتمالها يفوق طاقة البشر.

فهو لم يطلق عائشة، ولم يقتل صفوان، ولم يقف مغتاظاً صارخاً يتوعد من يقذفون زوجته الأثيرة عائشة.

أي رجل أنت يا محمد؟!

(7) بـين ضعفـين

لما رجع الجيش إلى يثرب اشتكت عائشة، أضعفها المرض فسكنت الفراش، في لحظات ضعفها الجسدي كانت تستمتع بفيض الحب الغامر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتضاعف حنانه، يقدم حبه في كلمات لطيفة، ولمحات رقيقة كأنه يعوضها عن وهن الجسد.

ذات ليلة نظر إليها بعينين دافئتين وبسمة رائقة بديعة وقال:

- أستأذنك أن أخلو بربي.

غمرت نفسها اندهاشة ارتج منها الجسد، وتخللتها نشوة دغدغت أعصابها، رسول الله يستأذنها، قالت في نفسها:

- من أنا حتى يستأذنني رسول الله؟!

هنالك أحست بمكانتها في قلبه، وأغرتها هذه المكانة بالحرص على إظهارها أمام نسائه الأخريات خاصة في المجامع.

تعمدت هذا في المسجد عندما كانت الأحباش تلعب في المسجد احتفالا بالعيد، إنها تذكر تماماً نظراتهن إليها وهي تنظر إلى اللاعبين من فوق كتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما لاطفها بكنيتها المحببة إليه: " يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ " قالت: نعم. حتى قال لها: " يا عائشة ما شبعت؟ " قالت: لا، وظلت ترقب اللاعبين من بين أذنه وعاتقه حتى شبعت.

عندما أطال النظر إليها تذكرت أنها لم ترد على طلب رسول الله، نظرت في عمق عينيه وقالت:

- والله يا رسول الله إني لأحب قربك وأوثر هواك.

إنها اليوم تفتقد ملاطفته المعتادة، أحست في نفسها وحشة لم تعهدها بقرب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -.

لابد أن شيئاً ما أهم رسول الله فأذهله عن رقته معها، روافد حبه لها كانت تأتيها كطيور نورانية عبر مفردات الحياة اليومية، تطوف كسحابات عطرية زاهية الألوان.

أما اليوم فالرسول مشغول عنها.

ترى ماذا أهمك يا رسول الله؟!

(Cool ضعف الشاعر

الشاعر يغزل الحروف، وينسج من الكلمات قصائد وأهازيج، ويضفي على الحروف حياة وحركة، يحدها حتى نجد لها وخذ الإبرة وطعن النصل، ويلينها فتكتسب رقة راحة الوليد، ويوقدها فتكوي كلهب النار، ويرققها في حنان الأم المؤمنة.

الشاعر متوهج العاطفة، تتمدد عواطفه على مساحة من عقله، تسبقه كلماته مدحاً وقدحاً كحمامات يطيرها في الفضاء بلا عودة.

حسان بن ثابت شاعر يحمل راية، يقود كتيبة الشعر، ركب موهبة شعره ونذرها للذود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

مبعث قوة الشاعر وبؤرة ضعفه الكلمة، انزلق لسانه في الإفك، هو ذات اللسان الذي دافع به عن رسول الله وعرضه وصحبه.

هل تنفجر الكلمات؟

عندما بلغ صفوان ابن المعطل أن حسان بن ثابت تكلم بالإفك، تحول صدره إلى أتون محكم الإغلاق، انطلق الدم في عروقه حمماً بركانية مجنونة، وغاب وعيه في تلافيف سحابات سوداء، واندفع كموجة غاضبة اكتسحت سداً عاندها لسنوات، طاف كأسد جائع يبحث عن فريسته التي جرحته وأفلتت عندما رأى حسان ضربه على رأسه بالسيف، وأطلق زفرات حارقة تدثرت في كلمات: (تَلَقّ ذُباب السيف عني فإنني غلام إذا هُوجِيت ليس بشاعر)

انتفض المسلمون فحاصروا صفوان المشتعل، ومنعوا غضبه المتفجر من الفتك بحسان، وأحاطوا برأسه المصاب أوقفوا نزيف الدم المتدفق، عالجوا جرحه الغائر، وصحبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

النبي آدمي اختاره الله لحمل رسالته إلى الناس، هذب أصله الطيني، علمه ما لا يعلم الناس، رقاه إليه وقربه منه فأصبح نورانياً، إنسان يسير على قدمين بتوجيه من السماء، انضبط القلب فسلمت له الجوارح.

لم يجد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في نفسه كراهية لحسان رغم ما بدر منه، رق لحاله، نظر إليه بإشفاق، استمع إلى شكواه من ضربة صفوان، عوضه عن إصابته ببستان من نخيل، وأهداه جاريته سيرين أخت مارية المصرية، كانتا في هدية له من مقوقس مصر.

أي نفس تلك التي تتمتع بها يا محمد؟!

(9) ظن الخير

المحن تهزم الناس، تزلزل ثوابتهم، تبدل رؤيتهم للحياة، أو تزيدهم قوة وثباتاً، النبت الطبيعي تفيئه الريح ولا تقتلعه، ولكنها تجارب قاسية، تبقى بصماتها في النفس كندبات الجروح الغائرة، تبرد حرقة الجرح مع الزمن، وتبقى الندبة شارة رغم الزمن.

عندما انزلقت الألسنة شق الإفك أخدوده الناري في جميع دروب المدينة، وتطاول بألسنته على المسلمين من أبواب المدينة وشرفاتها.

الزور الذي زينه ابن سلول كان غريباً على نفوس المسلمين، رائحة نتنة في جو معبق بأرق العطور، تأباه الأذواق السوية.

كاد الغثيان يغلب أم أيوب الأنصارية عندما صك أذنها خبر الإفك، المؤمنة تعلم أنه ليس في كون الله مكان لنختبئ فيه من الله، الله يراهها حيث تكون، يراقبها أينما حلت، يعلم خاطرها وما يكن في صدرها.

وعائشة فتاة رقيقة نبتت في بيت رجل صديق، وترعرت في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يصدق العقل رغبتها في غير النبي؟!

غالبت كآبة الصمت السميك، ولاكت الحروف كمضغة عفنة عافتها نفسها، وآشعة عينيها مازالت تحفر في أرض الغرفة الترابي وقالت:

- أسمعت ما قيل يا أبا أيوب؟

رد بهدوء المؤمن الواثق:

- أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟!

انطلق لسانها من بيئته الصمغية اللزجة بطلاقة:

- لا والله.

- فعائشة والله أفضل منك.

كلماته القليلة غسلت نفسها من أوساخ الإفك، سبحت في خلاياها، أمرتها بالاسترخاء والراحة، مسحت على القلب المرتجف مثل كف أم حانية فسكن واطمأن، أغرت جفنيها بالانزلاق لغلق الحدقة المتحجرة منذ زمن، وقالت في هدوء.

- نعم.

(10) شركاء النبي

عائشة وزينب بنت جحش زوجتان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلتاهما أحبت رسول الله كجميع نسائه، الغيرة الزوجية غلالة تبطن قلب المرأة، فإذا تشبع القلب بمفردات الإيمان، أصبحت الرؤية الإيمانية ضابط حاكم ينظم مرور المشاعر.

كان هذا الضابط الحاكم بمثابة اليد الرحيمة التي احتضنت زينب بنت جحش وعصمتها من السقوط في الفتنة.

عندما سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة قالت: (يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً).

تجاوزت زينب شر الإفك، ولكن أختها حمنة رأت فيما روجه المنافقون على عائشة دعم لموقف أختها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بإزاحة منافستها القوية على حبه.

أما مسطح بن أثاثة فقد غره التأويل الشيطاني لمشهد عودة عائشة فوق ناقة صفوان بن المعطل، وغاب وعيه في خمر الفتنة عن حقيقة عائشة، وما تمثله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(11) الحزن يسكن المدينة

على غير عادته لم ينطلق فرحاً إلى يثرب، ها هو أخوه جاءه، هذا دوره، إنهما يتبادلان العمل، أحدهما يتابع البستان بأعالي المدينة، والآخر يتعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- ألن تنزل إلى المدينة؟

استدعاه السؤال، جذبه بقوة من دوامة سوداء انزلقت نفسه فيها، حرك لسانه بثقل مرضي وببرودة المهزوم.

- كيف تركت المدينة؟

- المدينة حزينة، غبار الفتنة طال الجميع، ليس منا أحد لم يأخذ نصيبه منه.

- ورسول الله؟

- رسول الله أشد الناس حزناً، استطلع رأي أصحابه في الأمر.

- وماذا فعل؟

- لم يفعل شيئاً، ما يزال صابراً محتسباً.

عجيب هو موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لم يفعل شيئاً، ولم يأمر أحداً من أصحابه بفعل، دقائق الزمن تحرق كرمال الصحراء في حر الصيف، وكلمات المنافقين لها أنياب حادة، وأظافر جارحة.

فاجأ صاحبه بقوله:

- لو كنت مكان رسول الله ماذا كنت فاعلاً؟

- من منا يطيق هذا؟!

دفن رأسه بين ذراعيه، وعتب في نفسه على أخيه الذي ألقمه سؤالاً فأعاده إلى ساحة علامات الاستفهام المنصوبة في داخله، تقذفه كل علامة ليرتطم بأختها، ولا يكاد يفيق من علامة حتى يسقط بين يدي علامة أخرى.

ألم يكن بإمكانه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بقتل من افتروا على عائشة؟ أو يأمر من يخرس ألسنتهم بعيداً عنه؟ أو يأمر بتحريم الكلام فيه، وتجريمه بعقوبة قاسية؟ ولماذا صمت هذا الزمن الثقيل الذي قارب على الشهر، والمنافقون ينهشون عرضه في المجالس والطرقات؟

لماذا يتحمل كل هذا العذاب هو وزوجه الحبيبة وبيت الصديق، ومن ورائهم عامة المسلمين؟

- ألن تنزل إلى المدينة؟

- لا. سأصلي هنا الليلة وأضرع إلى الله أن يفرج كربنا.

(12) من عظمة النبي

قرابة شهر ويثرب تغلي كالمرجل، صمت الرسول أغري القلوب المريضة بالولوغ في عرضه، وجبريل لم ينزل من السماء، حركة النبي مقيدة بالوحي.

الألسنة التي تمضغ عرضه في الطرقات والمنتديات محسوبة عليه، فمنهم منافقون، ولكن ظاهرهم الإيمان، ومنهم مؤمنون شهدوا معه معركة بدر وهؤلاء لهم منزلة خاصة في قلبه.

ما يردد في يثرب كلام، ولم يشرع الله عقوبة على كلام، قذف لفتاة أحبها وعاشرها ويعرف صدقها وطهارتها، الرجل الذي اتهموه فيها، لا يعلم عنه إلا خيراً، ولا يدخل بيته إلا معه.

عندما سأل أسامة بن زيد وهو في منزلة الحفيد عن عائشة قال:

- (أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً).

أما علي بن أبي طالب فأشفق على ابن عمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وطأة المحنة عنه بالمسارعة إلى تجاوزها وتخطي أيامها التي طالت وشقت على نفسه.

- (يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير).

والرسول يرجو أن تنزل براءتها من السماء، وتسريح عائشة لا يعني تجاوز المحنة.

يتحرى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - من بريرة، الجارية المرافقة لعائشة إذا كانت رأت ما يريبها منها، فأرسلت عبراتها الحزينة وتبعتها بالقول:

- (لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن فتأكله).

الألم المتفجر في نفسه - صلى الله عليه وسلم - لم يدفعه لتجاوز الحق الذي يدعو إليه. مثال للكمال الآدمي، صورة نادرة للإنسانية الراقية.

لم تغادر النبي محمد رحمته التي عرفه بها الناس، وقف خطيباً بينهم وبث فيهم شكواه ممن آذوه، طرح مكنون نفسه في هدوء مبهر.

- (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل إلا معي)

وكأنه لا يملك سلطاناً!

وكان أصحابه لن يسارعوا لتنفيذ أمره!

إنه الرجل الذي لا يتجاوز وحي ربه.

(13) عائشة في أتون المحنة

أطلق المنافقون الإفك في المدينة كذئاب مسعورة تنهش في المسلمين نهش الضواري المجنونة، يؤذيهم ما بلغهم عن عائشة، وهي طاهرة كماء الندى، غافلة عن الإجرام الذي تولى كبره هذه الفئة التي كذبت في إيمانها.

السحاب القطني الناصع لا يلوثه طين الأرض، ونسائم ريح الصبا لا يخدشها نتن الجيف في المزابل والخرابات.

مسكينة يا حبيبة رسول الله!

قدراً علمت بالإفك، كانت آخر من علم بالمدينة، من رحمة الله بها أنها كانت غافلة عما يجري، قرابة شهر وكلمات المنافقين سفود محمي لا يرحم، المؤمنون يتجرعون أحزانهم، ورسول الله صابر ينتظر أمر ربه.

عندما علمت ساخت قدميها في الرمال، نزل عليها الخبر كجبل صخري مصمت، بدد القول الشرير سعادتها، أحست بضربات قلبها كمطرقة هائلة تضرب على طبل خرافي أجوف، فالنفس فراغ شاسع، والقلب هواء، وغلالة ضوء الصحراء الليلية باتت سوداء، ورمال الصحراء اللينة صارت صخرية، والعقل يدور بعفوية في تيه لا محدود الأنحاء، وبيوت مدينتها الزاخرة قاحلة جرداء، واستتر القمر الأبيض خلف غيوم الليل خفراً وحياء.

لحظة واحدة انقلبت فيها جنتها لعذاب وشقاء، أنكرتها جميع الأشياء.

حجرتها التي جمعتها برسول الله، فراشها ووسادتها ونمارقها البيضاء، عرائسها التي كانت تلاعبها، أصبحت غريبة عن كل الأشياء.

لم تشعر قبل ذلك بالوحشة في وجود رسول الله، كل شئ تغير، لحظة فارقة بين السعادة والشقاء، هكذا تفعل جرعة السم القاتلة، تنطلق بجنون في أنهار الجسد الشاب فينهار، يسقط فجأة بلا مقدمات.

إنها تذكر الآن.

تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يلاطفها كما اعتاد أن يفعل، ولم يدللها ويناديها بالحميراء، ولم يجلس إليها ويداعبها.

تذكر الآن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مهموماً، بدا لها حزيناً.

تذكر أن رسول الله لم يجلس عندها منذ أكثر من ثلاثة أسابيع.

- هل صدقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

دهمها السؤال كقطيع من الإبل المروعة من الضواري، خاطر مجنون عربد في قلبها الجريح، إنها قد تحتمل الإفك، ولكنها لن تستطيع قبول تصديق رسول الله به.

غرقت عائشة في جب من الغم مجهول القاع،

إنها الآن لا تعرف ماذا تقول؟ ماذا تفعل؟

كانت غافلة لا تدري شيئاً عما يحدث، والآن صارت تعلم.

عندما دخل عليها رسول الله وسأل عنها، لملمت شيئاً من قوتها الضائعة، واجتهدت بحثاً عن بقايا كلمات وقالت:

- ائذن لي إلى أبوي.

(14) دموع البراءة

أظلت سحابة كئيبة بيت الصديق، رماهم المنافقون بجرم ما رماهم به أحد في الجاهلية، فكيف يرمون به بعد أن أكرمهم الله - تعالى -بالإسلام؟ وفي ريحانتهم الصغرى التي شرفهم الله - تعالى -باقترانها برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

منذ عادت عائشة من بيت رسول الله ودموعها تجري، تنبع بغزارة كعين فاضت من أرض حبلى، يكاد كبدها أن يتفطر، خاصمها النوم منذ علمت بالخبر الأسود، ليلة في بيت رسول الله، وليلتان ويوم عند أمها في بيت أبي بكر، تطعن ساعات الحزن القلب بقسوة، تدهس المشاعر كعجلات معدات الرصف الغليظة، تحول قماشة النفس المتينة إلى خرقة بالية.

طوفان الحزن أغرق بيوت المدينة، النساء يشفقن على عائشة كيف تتحمل فتاة صغيرة هذا الظلم الفاحش الذي يهزم أعتى الرجال؟!

كن يأتين إليها، يجلسن معها، يشاطرنها الصمت والألم والدموع، يضرعن إلى الله أن ينزل جبريل ببراءتها، ولم لا؟

إن الله يحب عائشة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبها؟

أما عائشة فكانت ترى أنها أهون على الله من أن ينزل فيها قرآناً، ولكنها كانت ترجو

أن يخبر الله - تعالى -رسوله ببراءتها في نومه.

الأيام البلهاء تخطو ببطء عير عابئة بعائشة، والليل حيوان أسطوري مفزع يحتويها ببرودته وفراغه الكئيب، ولا آمل لها إلا أن تنتظر مع رسول الله البراءة من السماء.

(15) لن يضيعنا

في أول زيارة لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر الصديق بعد استئذان عائشة إليه، دخل إليها، كانت على حالها تبكي ولا يرقأ لها دمع، وفي جوارها امرأة من الأنصار تواسيها بدموعها.

دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن خلفه أبو بكر وأم رومان، طلت عائشة إلى وجهه بنظرة خاطفة، لها ثلاثة أيام لم تره، ثلاثة أيام تمددت عبر مساحة هائلة من الزمن.

عندما كان يدخل إليها كانت تسارع إليه كفراشة مبتهجة بألوان البستان، ولكنها اليوم لا تقو على الحركة، تحس بان الهرم دب في أوصال جسدها الفتي.

سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس، تمنت عائشة أن يحدثها ويلاطفها كما عودها.

نظر إليها وقال: (يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه)

لم يكن الشك هو الذي أنطق رسول الله بهذه الكلمات، ولكنه أراد أن يستمع إليها، أن يتعرف على موقفها من فمها، لم يسألها من قبل عن رأيها فيما يتحدث به الناس.

سأل أصحابه وزوجاته وشكى إلى المسلمين ما يروجه ابن سلول.

طال صمت عائشة، لا تعرف ماذا تقول. نظرت إلى أبيها وطلبت منه أن يجيب رسول الله، ولكن أبا بكر لا يعرف بم يجيب رسول الله.

توجهت إلى أمها أم رومان لتجيب عنها رسول الله، ولكنها أيضاً لا تدر بم تجيب.

أحست بروح غاضبة تسري في أوصالها، تتصاعد فيها، تمنحها قوة بعد ضعف، جفت جموعها وانتبهت، استدارت إلى مواجهتهم ورفعت رأسها في عزة وقالت:

(إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم إني لبريئة - لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعمل إني بريئة، لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون")

من زخم ما يمور في وجدانها نسيت عائشة اسم نبي الله يعقوب، جارية صغيرة تحمل هماً كبيراً.

لم تشعر عائشة براحة منذ جاءها الإفك إلا بعد هذه الكلمات، كأنها نزعت أحزانها ولفلفت فيها كلماتها وألقتها خارج نفسها الحزينة واسترخت، ثم تحولت على فراشها.

مسكينة يا عائشة، فوضت أمرها إلى الله وحده.

والله لا يضيع أولياءه المخلصين.

(16) ونزل الوحي

كانت كلمات عائشة آخر ما سبح بفضاء الحجرة، صمت الرسول المهيب أسكت الجميع، نكس أبو بكر رأسه، وأم رومان انكمشت واستندت إلى الجدار، والأنصارية غابت في نفسها رهبة من هول الموقف، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - شامخ في مكانه لا يتحرك.

لم يكسر جمود الحجرة الجليدي إلا نظرة شاخصة من أبي بكر الصديق إلى رسول الله.

لاصطكاك أسنان رسول الله صوت، استدارت عائشة وتفحصت بحنان وجه رسول الله، إنها تعرف هذه الحالة، إنه ترتعد وينفصم عنه العرق كحب اللؤلؤ الفضي.

إن رسول الله يوحى إليه.

الآن تتصل السماء بالأرض.

الآن جبريل مع رسول الله يخبره عن الله - عز وجل -، والرسول يتلقى عن ربه.

العيون المحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - تتطلع إليه بإشفاق، تترقب أن ينفصم عنه الملك، دقائق لها في معيار التاريخ قيمة.

عندما غادر جبريل، ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدرت عن فمه فراشات ترفرف في أرجاء الحجرة التي انفسحت جدرانها، وازدان فضائها وتطيبت بعطور لم يعهدها أهلها من قبل.

ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أكثر من شهر عاش حزيناً لم يتبسم.

بحنان دافئ نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة وبصوت تكسوه الفرحة قال:

- (يا عائشة، احمدي الله، فقد برأك الله).

سكت أبو بكر، سكتت أمها أم رومان، سكت الجميع ليدافع الله عنها، يبعث جبريل بقرآن يتعبد الناس بتلاوته إلى يوم القيامة ببراءة جارية حديثة السن.

إنه الله اللطيف الخبير.

(17) أشرقت الشمس مبتهجة على مدينة رسول الله، القبة السماوية الصافية الزرقاء تحتضن في مودة بساط الصحراء الذهبي عند الأفق، ونسمات الرياح اللينة تطرح في الأجساد نشوة وفتوة.

فرت الذئاب من دروب المدينة تحت جنح الظلام، وجفت مخاضاتها الآسنة، وأصبحت عيون الناس تتعانق بلا حرج، وخرج الأطفال في أمان يمرحون مع خيوط الصباح الفضية الأولى، وعادت الطيور التي هاجرت غماً وكمداً، وراحت الإبل تصدح منتشية برغائها.

بعد شهر كامل انسحبت جيوش الفتنة الغازية، لملمت أشلاؤها واندحرت، أخمد الله نيرانها في صدور المنافقين، أعقبهم حسرة وندامة يصلون حسيسها مابقيت أرواحهم.

نشر الله الحكمة في كبد السماء.

علم الناس قدر نبيهم وانضباطه بما يدعوهم إليه. بخلقه وصبره، بمكانه عند ربه، وان الله نصبه للناس قدوة لأنه الإنسان الأرقى، الإنسان الذي استوعب منهج الله فكان قرآناً يمشي على قدمين.

علمت عائشة أن الله ليس بقاس على أوليائه، ولا يريد تعذيبهم، وإنما يبتليهم ليعلنوا عبوديتهم، وينطرحوا ببابه، ويلوذوا بجنابه، ثم يزكيهم ويصطفيهم ويرفعهم عنده وعند الناس.

علم المسلمون أن الإفك لم يكن شراً، بل كان خيراً لهم.

علم المجتمع المسلم أن محنة المسلمين بالإفك كانت درساً بليغاً يقدم حيثيات للتشريع الإلهي الرحيم.

علم الناس جميعاً أن حق الإنسان على أخيه الإنسان أن يحترمه ولا يؤذيه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الإفك المحنة البليغة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصة الإفك...بين المحنة والمنحة
»  كيف تصرفت في هذه المحنة؟
»  حادثة الإفك.. دروس وعبر
» حادثة الإفك دروس وعبر
» الأحاديث الطوال (6) حديث الإفك

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: السـيرة النبوية-
انتقل الى: