مسجد الفتح والمساجد التي حوله
هو المسجد الذي على الجبل من الطرف الغربي من جبل "سَلْع" وغربيَّه وادي "بُطْحَان"، ورد ذكره في بعض المصادر باسم "مسجد الأحزاب"، وفي بعضها باسم "مسجد الفتح"، وفي بعضها باسم "المسجد الأعلى".
ففي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في مسند الإمام أحمد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَتَى مسجدَ الأحزاب فوضع رداءَه وقام فرفع يديه مدًّا يدعو عليهم ولم يُصلِّ، ثم جاء ودعا عليهم وصلَّى"(1) فسماه "مسجدَ الأحزاب".
وفي رواية عنـه أيضًا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى مسـجدَ الفتح يومَ الاثنيـن ويومَ الثلاثـاء ويومَ الأربعـاء؛ فاســتُجِـيب له يومَ الأربعاء بين الصـلاتيـن فعُرِفَ البـِشْـرُ في وجهـه"(2)، فسماه في هذه الرواية "مسجدَ الفتح".
قال جابـر: فلم ينـزل بي أمر مهم غليظ إلا تَوَخَّيـتُ تلك السـاعةَ فأدعو فيها فأعرفُ الإجابةَ(3).
يقصد - رضي الله عنه - أنه يتوخَّى الزمانَ والمكانَ، أي يدعو في تلك الساعة في ذلك المكان الذي دعا فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الفتح؛ بدليل رواية البخاري في "الأدب المفرد" ولفظه: ((ولم ينزل بي أمر مهم غائظ إلا تَوخَّيْتُ تلك الساعةَ فدعوتُ الله فيه بين الصلاتين يومَ الأربعاء في تلك الساعة إلا عرفتُ الإجابةَ))(4)
وفي إحدى روايات البزار أنه يدعو في تلك الساعة في مسجد قباء(5).
وقد يظن بعض من لا فقه عنده أن هذا اضطراب في متن الحديث؛ مرةً يقول في "مسجد الفتح" ومرةً يقول في "مسجد قباء"؛ وليس كذلك؛ فهذا من تعدد الوقائع؛ فجابر - رضي الله عنه - مرةً فعَلَ ذلك في مسجد قباء، وفي أغلب المرات فعَلَهُ في مسجد الفتح؛ لأنه كان يَتَوخَّى بركةَ الزمان وبركةَ المكان؛ ومسـجد الفتح أو مسجد قباء كلُّها أماكن مباركة، يُشْرع الصلاة فيها والدعاء.
والمساجد التي في الوادي تحت مسجد الفتح سماها السمهودي وغيره "مساجد الفتح" نسبة إلى هذا المسجد المبارك المشهور(6) واشتهرت عند المتأخرين "بالمساجد السبعة"(7) وحينئذ يختلفون في تعيين المسجد السابع على أقوال لا يبدو مستندها وجيهًا، وفي الوادي من مساجد الفتح أربعة؛ ثلاثة منها مبنية منذ عهد الصحابة؛ أول من بناها "عمر بن عبد العزيز" أميرُ المدينة حينذاك، رواه ابن شبة في أخبار المدينة(
وابن شبة من ثقات المحدِّثين وكتابه يُعَدُّ أوثَقَ نصٍّ قديم في تاريخ المدينة؛ توفي ابن شبة في (262) هـ.
وأقوى نص يشير إلى المساجد التي في الوادي ما ذكره ابن النجار (ت سنة 643) هـ عن معاذ بن سعد رضي الله عنه(9): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في مسجد الفتح في الجبل، وفي المساجد التي حوله"(10)
وذكر الواقدي(11) أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول: صـلى رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك المساجد كلها التي حول المسجد الذي فوق الجبل(12).
وهذا النص يفيد أمرين: أولهما أن هذه المساجد كانت معروفة ومبنية حين صدور هذا الكلام من ابن عمر - رضي الله عنهما -، وثانيهما: أنها كلها من المساجد النبوية؛ فها هو ابن عمر وهو المعروف بتتبعه لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في تلك المساجد.
وأول مسجد من هذه المساجد في أصل الجبل في قبلة مسجد الفتح ويسمى "مسجد سلمان الفارسي" وهو المقصود بالخبر الذي رواه ابن شبة عن أسيد ابن أبي أسيد عن أشياخهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على الجبل الذي عليه مسجد الفتح، وصلَّى في المسجد الصغير الذي بأصل الجبل(13).
ورَوَى عن عمارة بن أبي اليسـر قال: صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسـجد الأسفل(14).
وعن الحارث بن فُضَيل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ فصلَّى أسفلَ من الجبل يومَ الأحزاب ثم صعد فدعا على الجبل(15).
ويُفهَم من قول ابن عمر - رضي الله عنهما - وقول معاذ بن سعد - رضي الله عنه - وقد سبق ذكرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في ثلاثة مساجد على الأقل، وهناك غير مسجد سلمان الفارسي - رضي الله عنه - مسجد أبي بكر الصديق قبليَّه مائلاً إلى الغرب، وهو أكبر هذه المساجد التي في الوادي، وبعضهم يسميه مسجد علي بن أبي طالب، ولا ضير فأصلاً هذه التسميات لا مستند لها، وقد هُدِمَ هذا المسجد مرتين؛ مرة على يد العبيديين الروافض، ثم أعاد بناءه بعض الفقراء سنة (902) هـ (16)، والآن في عصرنا هذا هُدِم مرة أخرى، نسأل الله - تعالى - أن يقيض من يحييه مرة أخرى ويعيد بناءه..
يليه من جهة القبلة مائلاً إلى الشرق مسجد عمر بن الخطاب، وهناك مساجد أخرى لا يعرف متى أُنشئت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* بتصرف يسير
(1) مسند أحمد 3/332، مجمع الزوائد 4/12
(2) المرجع السابق
(3) المرجع السابق
(4) الأدب المفرد للبخاري ص 246
(5) كشف الأستار عن زوائد البزار 1/216
(6) وفاء الوفاء للسمهودي ص 830
(7) انظر المساجد الأثرية في المدينة النبوية لمحمد إلياس عبد الغني [طبع سنة 1418هـ] ص 136
(
أخبار المدينة لابن شبه 1/74
(9) معاذ بن سعد ذكره ابن حجر في الإصابة ممن له صحبة [الإصابة 6/141]
(10) الدرة الثمينة في تاريخ المدينة لابن النجار [طبعة مكتبة الثقافة بمكة سنة 1401هـ تحت اسم أخبار مدينة الرسول] ص 114
(11) الواقدي مؤرخ معروف، حجة في المغازي والسير، قال الحافظ الذهبي في ترجمته في ميزان الاعتدال [3/662]: "كان إلى حفظه المنتهى في الأخبار والسير والمغازي والحوادث وأيام الناس والفقه وغير ذلك" وقال ابن كثير: "والواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالبًا فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار" [البداية والنهاية 3/234]
(12) المغازي للواقدي [طبعة اكسفورد] 2/488
(13) ابن شبه 1/59
(14) المرجع السابق
(15) المرجع السابق
(16) خلاصة الوفاء للسمهودي [طبعة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة] ص 390