اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  إيماني رأس مالي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99985
 إيماني رأس مالي  Oooo14
 إيماني رأس مالي  User_o10

 إيماني رأس مالي  Empty
مُساهمةموضوع: إيماني رأس مالي     إيماني رأس مالي  Emptyالثلاثاء 19 مارس 2013 - 10:22

إيماني رأس مالي

خلق الله - تعالى - الناسَ وكرَّمهم، ورزقهم، وفضَّلهم على بقية المخلوقات، بل وسخَّرها لهم؛ قال - تعالى -: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]، وحدَّد - سبحانه وتعالى - للناس واجباتِهم في هذه الدنيا، وهذه الواجبات تقسَّم إلى قسمين:

أولها: العبادات: وهي التي تحدِّد عَلاقة الفرد بالله تعالى؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والذكر، وغيرها، فينبغي أن تكون على أكمل وجهٍ، وتليق به - تعالى -، فتكون خالصةً لله - تعالى -أولاً، وعلى نهج رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا، فحين نصلِّي، علينا أن نراعيَ أننا نصلِّي لله العظيم، والقادر، والعزيز، والقاهِر، ونستشعِر كلَّ أسمائه وصفاته؛ حتى تأتيَ العبادة من قِبَلنا على الوجهِ الذي يَرضَاه هو - سبحانه وتعالى -.

ثانيها: المعاملات: وهي عَلاقة الفرد مع مَن حوله من الناس بكلِّ أشكالِهم، وأعمارِهم، ومعتقداتِهم، ونوع العلاقة، كأن تكون: عائلية، أو علاقة عمل، أو زمالة دراسة.

ما أريد أن أستهدِفه بكلامي، هو أن هذا الإنسان ما خُلِق عبثًا، ولا يمكِن أن يكونَ كذلك؛ لأن حوالينا مخلوقاتٍ أصغرَ، وأحقر، وأقل من الإنسان بكثير، لها هدفٌ من خَلقِها أو وجودِها، بل إن ما نصنعه بأيدينا من أشياء، له أدوار وأهداف.

فهل من المعقول أن نكون نحن مخلوقين من غير هدف؟

قال - تعالى -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].

كنَّا صغارًا في مرحلة الدراسة الابتدائية، وكان كلُّ مَن يلتقِي بنا يسألنا السؤال الروتيني:

ماذا تتمنَّى أن تُصبِح في المستقبل؟

بل إنَّ بعض المعلِّمين أو المعلِّمات في المدارس يحبُّ أن يجعل من هذا السؤال فعالية صفِّيَّة، فيباشِر بتوجيهِ السؤال لجميع طلابِ الصفِّ الواحد تلو الآخر، وكانت الإجابات تأتي بسرعةٍ، وعفويةٍ، وبطيبة الأطفال المعهودة: طبيبًا، مهندسًا، محاميًا، معلمًا، ضابطًا، ثم يكرر بقية الأطفال الإجابةَ كالببغاوات، وهذه هي الاختصاصات المعروفة في وقتها.

وربما كانت تلك الإجابات لا تعبِّر عن وجهة نظر الطلاب أو رغباتهم، ولكن في حقيقتها هي أماني آباء أولئك الطلاب أو أمهاتهم، أو أنهم متأثِّرون بشخص يعرفونه، وهو بالنسبة لهم قدوة، وهذه القصة تكرَّرت كثيرًا كلما تقدَّمنا في المراحل الدراسية.

وهكذا، فإن الأمنياتِ هي التي تحرِّك هذا الإنسانَ لتحديد مسارِه نحو المستقبل، فالكثيرُ من هؤلاء الطلاب وغيرهم تحقَّق له ما أراد، وحَصَل على ما كان يتمنَّى بالضبط، ولكنه بعد تحقيقِ أمنياتِه يقول: إنه غير مرتاح! فالمشكلة ليس في الأمنيات نفسِها، فالأمنيات تتحقَّق - بإذن الله - تعالى - ولكنَّ المشكلة في أن هذه الأمنيات قاصرةٌ، غيرُ متوازنةٍ، غيرُ واضحةِ المعالم، أمنيات أطفال وردية، وليست أمنيات أناس ناضجين، على مستوى من الوعي بدورهم في الحياة، فحين لا تَرتَبِط الأمنيات بشكل متوازِن مع الدور الوظيفي للإنسان بشِقَّيه العبادي التوقيفي مع الله - تعالى - والتعاملي مع بقية البشر، فستكون هراءً في عالمٍ حالمٍ وردي، أو أحلام أَغْرَار متهوِّرين، ليس لهم أدنى خبرة في هذه الحياة.

لقد مرَّت بنا الأيام مسرِعة، وتحقَّق للكثير منا ما كان يتمنَّى، وربما تحقَّق لبعضنا أكثرُ مما كان يحلُم، ووجدنا أنفسنا أمامَ سؤال جديدٍ لا مفرَّ منه، وهو:

هل حقَّقتْ لنا أمنياتُ الماضي السعادةَ حين تحقَّقتْ؟

سألتُ الكثيرَ من الناس ممن التقيتُ بهم هذا السؤالَ، وأجمع أكثرُهم بأنه تمنَّى لو أنه لم يتخصَّص بهذا الاختصاص، بل إنَّ منهم مَن حقَّق أمنيته، ثم تركها إلى غير رَجْعَة، ونَدِم على سِنِي عمره التي قضاها للحصول عليها، وهو اليوم يمارِس اختصاصًا آخر، عملُه اليوم بعيدٌ كل البعد عن أمنيات الماضي، وأنا شخصيًّا أعرِف اليوم:

• طبيبًا يعمل إعلاميًّا.

• صيدلانيًّا يعمل تاجرًا.

• مهندسًا يعمل أديبًا.

ومن الناس مَن كانت أمنياته التي تحقَّقت، وسَعَى لها بكل ما آتاه الله من قوة في حياته، كانت سببًا مباشرًا في تعاستِه، أو نهايته المحزنة!.

التقيتُ في مرحلة من مراحل حياتي برجل عصامي، سَعَى لأن يكونَ رجلَ أعمالٍ كبيرًا، واستطاع بتوفيق من الله - تعالى - أن يحقِّق ما كان يريد في الجانب المادي، وتضخَّمت ثروتُه بشكل كبير، ووسَّع استثماراته بشكل أكبر مما كان يطمح ويتمنَّى، وكان فخورًا بذلك، ثم يقرِّر أن يتزوج من امرأة أخرى - وهو حقٌّ شرعي ولا شكَّ - ويَقَع حبُّ المرأة الجديدة والصغيرة في قلب الرجل، ويقرِّر أن ينقل بعضًا من ممتلكاته الكثيرة إلى زوجته الجديدة، هنا ثارت ثائرةُ الزوجةِ القديمةِ وأولادها؛ لأنهم خافوا أن يُعْطِي الممتلكاتِ كافَّةً لتلك المرأة، فقرَّروا قتلَه، فقَتَلوه وقَتَلوها شرَّ قتلةٍ! لقد قتلوهما حرقًا، وقيِّدت الجريمة ضد مجهول! .

نسمعُ كثيرًا في وسائل الإعلام عن أفراد يَنتَحِرون، وآخرون يُصَابُون بالجنون، أو الكآبة الانفعالية، أو يصابون بمرض انفصام الشخصية، لقد وجدت أن معظم هؤلاء المُبْتَلَوْن ممن تكون أهدافُهم وأمنياتُهم دنيويةً بحتةً، ويَسْعَون طوال حياتهم لزيادةٍ رؤوس أموالهم بكافة أنواعها، فربما كانت أموالاً، أو جاهًا، أو أولادًا، أو عقارات.

وفي صورةٍ أخرى متناقضةٍ مع هذه الصورة السوداء، فلقد رأيتُ بأمِّ عيني الحاج "عُبيدًا"، وقد ناهز التسعين من عمره، هو رجل فلاح، ولكنه قضى حياته جادًّا في طلب العلم، فهو ما أن يضع مسحاته، لا ينفكُّ يقرأ ويقرأ، لقد كان جادًّا، ومخلصًا في طلب العلم، مثلما كان جادًّا ومخلصًا في عمله الزراعة، لقد رأيته يحدِّثُ الناس وهو بكامل قوَّته بعد أن بلغ من العمر عتيًّا، حين يتحدَّث يَستَمِع له الأطبَّاء، والمهندسون، والأكاديميون، وكأن على رؤوسهم الطير، وكنت واحدًا من هؤلاء القوم، داعية إلى الله من طرازٍ فريد، لم تؤثِّر فيه ابتلاءات الدنيا رغم قسوتها وشدَّتها عليه، وهذا حال المتعلِّمين والمثقَّفين، والسائرين في طريق الله - تعالى -، يَمنَحُهم الله من الثبات في نهاية أعمارهم ما يتمنَّاه أيُّ إنسان.

وفي صورةٍ مضادَّة لهذه الصورة، رأينا ونرى ممن يسمُّون أنفسَهم - ويسميهم الإعلام - بالنجوم، كنجومِ الفنِّ، ونجوم الرياضة، كيف كانت نهاياتهم؟ وقبل نهايتِهم تراهم يتمسَّكون بالدنيا تمسكًا لافتًا للنظر، فإنهم يَلجَؤون لإجراءِ عملياتٍ جراحية كثيرةٍ؛ من أجل التجميل، ورَدْمِ تعرُّجات الهرم التي تركتها السنون على وجوهِهم، ولكن عمليات التجميل تفضحُهم بعد أن تشوِّه وجوهَهم أكثر وأكثر، إنهم يَسْعَون لاسترجاع مرحلةِ الشباب، وهو أمرٌ مستحيلٌ، يقول رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((تَدَاوَوا؛ فإن الله لم يُنْزِل داءً إلا وقد أنزل له شفاءً، إلا السَّامُ والهرم))[1]، والسام هو الموت، والهرم كبر السن، إن العودة للوراء وَهمٌ من أوهام الخيال.

لا شيءَ يجعلك راسخًا وواثقًا وعظيمًا، غير أنك تتبنَّى عقيدة عظيمة، وقضية عظيمة، وهذه الحقيقة التي يتوصَّل الناس إليها في نهاية أعمارهم، فالكثير ممن يتجاوَز الستين من عمره نراه يجدُ له طريقًا إلى بيوت الله - تعالى -، وربما كان هذا الاتجاه مخالفًا لما سار عليه في مشوارِ حياته، وفي شبابه تحديدًا، ولكنه اقتَنَع اليوم بأن ما كان يَسْعَى له في حياتِه إنما هو هراءٌ، وأنه لهوٌ ولَعِبٌ، ويؤمِن بعينِ اليقين أنه كان بالفعل يلهو ويلعب في هذه الدنيا، كما قال - تعالى -: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 64].

فأيُّ عاقل يبدِّل حياةً باقيةً كاملة، خالية من المنغِّصات، والابتلاءات، والأمراض، والحزن، والآهات، وغيرها، بحياة مريحة، وسعيدة، ومثالية، ودائمة؟

يقول الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية: "اللهو هو: الاستمتاع بلذَّات الدنيا، واللعب: العَبَث، سمِّيت بهما؛ لأنها فانية (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)؛ أي: الحياة الدائمة الباقية، و"الحَيَوان": بمعنى الحياة؛ أي: فيها الحياة الدائمة، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فناءَ الدنيا، وبقاءَ الآخرة"[2].

وهنا أردتُ أن أشير إلى أنَّ في كلام الله - تعالى - توكيدين على أن الآخرة هي الحياة الدائمة والباقية، بوجود "إنَّ"، وهي تفيد التوكيد، ولام التوكيد في "لَهِيَ"، ثم خُتِمت الآية بـ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؛ فالعلم هو سبيلٌ لليقينِ بذلك؛ فعَلَى الطالب أن يَسْلُكه.

حدَّثني صديقٌ لي أنه يَعرِف شخصًا سَعَى لجمع ثروةٍ طائلةٍ من الحرام، ثم بعد سنينَ طويلةٍ مَرِض هذا الشخص، وأخبره الأطبَّاء أنه سيموت بمرضه هذا، فكان يتوسَّل إلى عائلته، ويُلِحُّ عليهم أن يأتوا بكل المال الذي جمعه بالحرام، ويحرِقوه أمام عينيه ليرتاح، ولكن هَيْهَات، إنه يطلب ذلك بعد فوات الأوان، وهم بالطبع لم ولن يفعلوا ذلك، فمات الرجل بتلك الحسرة الكبيرة، لقد كان في الأمر فسحة، والفرصة قائمة له حين كان يتمتع بالقوة لتصحيح الموقف قبل فوات الأوان، أما الآن فلا!.

إن الفخَّ الذي يقع الكثير منا فيه، أننا نبدأ بدورٍ كبيرٍ، ونتبنَّى عقيدة عظيمة، ونَسِير في شرع الله العلي الكبير مستأنِسين بما نقدِّم لله - سبحانه وتعالى -- ولكن في مرحلة معينة يَلتَبِس علينا الأمر، ومن غير أن نَشعُر نَجْنَح عن الطريق القويم، فنَسِير في طريق آخر، هو طريق الهَلَكة، فيكون شغلُنا من أجل فُتَات الدنيا باسم الدين، وهذا النوع من السَّعْيِ هو من أخطر الأنواع وأشدِّها حسابًا يوم القيامة.

عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أوَّل الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه: رجلٌ استشهد، فأُتِي به فعرَّفه نعمَه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلتَ؛ لأن يُقالَ: جَرِيء، فقد قيل، ثم أُمِر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلْقِي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نعمَه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلَّمتَ العلم؛ ليُقال: عالمٌ، وقرأتَ القرآن؛ ليقال: هو قارِئٌ، فقد قيل، ثم أُمِر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلْقِي في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كلِّه، فأُتِي به فعرَّفه نعمَه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ؛ ليُقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أُمِر به، فسُحِب على وجهِه، ثم أُلْقِي في النار))[3].

فالنماذج واضحةٌ: مجاهدٌ، وعالمٌ، ومُنفِق، وكلُّهم يَزعُم أنه في سبيل الله - تعالى -، وحين يَزعُم أناسٌ أنهم إنما يعمَلون أعمالَهم في سبيل الله، فإن ذلك قد يَنطَلِي على بشرٍ ضعيفٍ قاصرِ العقل والتفكير من أمثالنا، ولكنه حاشا أن يَنطَلِي على خالقِ الخلق -- تبارك وتعالى -- فالتقويمُ ومراجعة الذات بشكل مستمرٍّ في هذا الباب تحديدًا وسيلةٌ مهمَّةٌ لحسنِ الاستثمار الإيماني.

بعد هذا الاستغراق في تِبيانِ سَعْيِ الناس لتنمية موارِدِهم المختَلِفة - وخصوصًا رؤوس أموالهم - نَخلُص إلى حقيقةٍ سيصل لها جميعُنا يومًا ما، سيصل لها الصغير حين يُرَدُّ إلى أرذل العمر، ويصل لها الصحيح حين يُنْهِك أعضاءَه المرضُ، ويَصِل إليها الغَنِي حين يَدْهَمُه هادمُ اللَّذَّات - الموت - والعاقل مَن يصل إلى هذه الحقيقة من ذاته، مستعينًا بالله - تعالى - مستخدمًا عقلَه، متفكِّرًا بآيات الله، متدبِّرًا تجارِب الحياة التي مرَّ بها، ومستفيدًا من تجارب الآخرين.

عند ذلك سيكون الاستثمار الحقيقي والأمثل في تنمية الإيمان الذي وضعه الله - تعالى -في قلوبنا، فحين نَقتَنِع بالأدلة الدامغة أنَّ "إيماني هو رأس مالي"، فإننا سنَسْعَى بكل ما يتوفَّر من الأدوات والمهارات التي نَمتَلِكها لتنمية هذا الإيمان؛ لأنه الرصيد الباقي والنافع في خاتمة حياتنا.

وهذه الحقيقة وجدناها في بعض الرؤى - والرؤيا يستأنَس بها، ولا يستَدلُّ بها - التي رُئي فيها بعض الصالحين بعد وفاته، فحين كان يُسأل: ما الذي نَفَعك؟ قال: رُكَيعَات كنا نقوم بها في جوف الليل، فبمثل هذه الأعمال يستحصل الفوز.

وهذا الفهم لا يَعْنِي أننا ننسَى حظوظنا في هذه الدنيا، فقد أعطانا الله - تعالى -الرخصةَ في تحسين وضعِنا المادي بكل الاتجاهات، ولكنَّ الأصل أن يكون هذا السعيُ من أجل الهدف الأسمى، بمعنى أننا نستخدِم هذا الحال الجيِّد في الدنيا لاستثمارِ رأس المال الحقيقي، وهو الإيمان، وبذلك يكون المال وسيلةً للوصول للآخرة، وليس العكس؛ قال - تعالى -: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].

واستثمار رأس المال الحقيقي - الإيمان - يحتاج إلى خطَّة تَنطَلِق من التحفيز الذاتي للنفس، وتنشيطها بجرعات من أعمالٍ مختلفة؛ من أجل أن يتحقَّق المراد، ولعل من أهم هذه الإعمال:

• ممارسة الإيمان على أنه عملٌ مرغوبٌ فيه من قبلي، وليس مفروضًا ومسلطًا عليَّ، بمعنى آخر: أن أمارس الإيمان ومتعلقاته برغبة وحبٍّ؛ ولهذا كان دعاءُ رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ارزُقنِي حبَّك، وحبَّ مَن يَنفَعُني حبُّه عندك، اللهم ما رَزَقتنِي مما أُحِبُّ، فاجعله قوَّة لي فيما تُحِبُّ، اللهم وما زَوَيت عنِّي مما أحبُّ، فاجعله فراغًا لي فيما تحبُّ))[4].

ولما كان الإيمان من أفضل الأعمال وأنفعها وأحبِّها لله تعالى؛ فحُبُّ الإيمان سيكون كذلك، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: أيُّ العملِ أفضل؟ فقال: ((إيمانٌ بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور))[5].

فكان رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - يطلُب من ربِّه - تعالى - أن يكون ما يَرزُقه مما يُحِبُّ قوَّةً له لتطبيقِ ما يُحِبُّ الله - تعالى - من طاعات وعبادات، فكيف هو الحال حين يكون ما نُحِبُّ هو الإيمان؟

- مصادقة مَن يؤمن بهذا النوع من الاستثمار، وأقصد أهلَ الإيمان، ومَن تركوا الدنيا وما فيها وراءهم ظِهْرِيًّا؛ لأن هؤلاء سيشجِّعون مَن يصادِقهم على تنمية رأس المال هذا، بل ويُسَاعِدونه في ابتكار الأساليب والوسائل لزيادةِ رأس المال الإيماني، وربما قدَّموا الدَّعْم المادي والعون المعنوي في هذا الإطار.

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله عبادًا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداء، يَغْبِطهم الشهداء والنبيُّون يوم القيامة؛ لقربهم من الله - تعالى - ومجلسهم منه))، فجثا أعرابي على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، صِفْهم لنا وحَلِّهم لنا، قال: ((قومٌ من أقناء الناس، من نزاع القبائل، تَصادَقوا في الله وتَحابُّوا فيه، يضع الله - عز وجل - لهم يوم القيامة منابرَ من نور، يخاف الناسُ ولا يَخَافون، هم أولياء الله - عز وجل - الذين لا خوفٌ عليهم، ولا هم يحزنون))[6].

فلقد علمت أن من الأصدقاء مَن يَجُرُّ صاحبه إلى هلاك الدنيا والآخرة، ونصادِف في حياتنا أصدقاء وأصدقاء، منهم مَن تَركُونا عند أوَّل هزَّة، ومنهم عند منتصف الطريق، ومنهم ما أن انقضت حاجاتُهم عندك حتى أَدَاروا لك ظهرَهم - ومن غير: في أمان الله - لأن العَلاقة كانت مستثمرة من أجل مطمَع دنيوي، وليس من أجل الله - تعالى -، في حين قابلنا أصدقاء مَن حقَّ فيهم قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:

إن أخاك الحق من كان معك **** ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك **** شتت فيك شمله ليجمعك

وإذا غدوت ظالم غدا معك

ومع أن مهمَّة إيجاد أخٍ في الله صعبةٌ أيما صعوبة في زماننا هذا، يقول عبدالله بن المبارك للسَّرخسي - رحمهما الله -: "ما أعياني شيءٌ، كما أعياني أنِّي لا أجد أخًا في الله - عز وجل -"، إلا أنها ليست مستحيلة.

• الاجتهاد من أجل أن أكونَ في مناخٍ يساعد على تنمية الإيمان؛ فالأجواءُ الإيمانية هي السبيل إلى بقاء الفرد في دائرة النماء الإيماني، وأما غيرها من مُلهِيات الدنيا الكثيرة، فما هي إلا عوائقُ كَأْدَاء في طريقِ نموِّ الإيمان؛ لأن الإيمان - كما قال العلماء - قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.

إلى غير ذلك من الأعمال، فأنا رجل ناهزت الخمسين، وعلى كثرة ما قرأت هذه الآية: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[المزمل: جزء من الآية 20]، فكأني ما تدبَّرتها إلا الآن، وما وَعَيتها إلا اليوم، وأَيقَنت بعد هذه التجرِبة الغنيَّة أن أفضل وأضمن ما يمكِن الاستثمار فيه في هذه الحياة - هو الإيمان، ربما أكون قد اكتشفت ذلك متأخرًا، ولكن أن أكتشف الأمر متأخِّرًا خيرٌ لي من أن لا أكتشفه أبدًا ثم يفوتني القطار.

_______________

[1] صحيح ابن حبان - كتاب الحظر والإباحة - كتاب الطب - ذكر وصف الشيئين اللذين لا دواء لهما.

[2]تفسير البغوي المعروف بـ "معالم التنزيل"، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، ج6، ص 255.

[3] صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب: من قاتل للرياء والسمعة، استحق النار.

[4] سنن الترمذي الجامع الصحيح - الذبائح - أبواب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في عقد التسبيح باليد.

[5] صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب من قال: إن الإيمان هو العمل.

[6] المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب البر والصلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
إيماني رأس مالي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: العقيدة الإسلامية-
انتقل الى: