أخذ الجزية ممن أسلم
قال الله تعالي: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى" يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)" التوبة: 29.
صورة المسألة:
إذا أسلم الذمي في أثناء الحول، فهل تجب عليه الجزية، وإن أسلم بعد الحول فهل تسقط عنه؟!
الأصل في هذه المسألة:
قول الله - تعالى -: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف 38 " الأنفال: 38.
الخلاف في المسألة:
القول الأول: ذهب أبو حنيفة(1)، ومالك(2) إلى أن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول لم تجب عليه الجزية، وإن أسلم بعد الحول سقطت عنه، وهو قول الثوري، وأبي عبيد(3)، وعبيد الله بن الحسن(4).
القول الثاني: قال الشافعي(5): إن أسلم بعد وجوب الجزية عليه لم تسقط بإسلامه، وبه قال ابن شبرمة(6)، وذلك لأن الجزية وجبت عوضاً عن العصمة بقوله - تعالى -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون 29" التوبة: 29 فأباح الله - تعالى - دماء أهل القتال ثم حقنها بالجزية فكانت الجزية عوضاً عن حقن الدم، وقد حصل له المعوض في الزمان الماضي فلا يسقط عنه العوض.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - أن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول، لم تجب عليه الجزية، وإن أسلم بعد الحول سقطت عنه، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يجب ما قبله".
قال الزركشي: "ويؤيد دخول ذلك في العموم أن الجزية عقوبة سببها الكفر فسقطت بالإسلام كالقتل"(7).
قال سفيان الثوري لما سئل عن تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المسلم جزية" قال: "إذا أسلم فلا جزية عليه"(
.
وأما قولهم: "أباح الله - تعالى - دماء أهل القتال ثم حقنها بالجزية فكانت الجزية عوضاً عن حقن الدم، وقد حصل له المعوض في الزمان الماضي فلا يسقط عنه العوض" فغير مسلم به، لأن الجزية لم توجب عوضاً عن حقن الدم، وإنما للحث على الإسلام، ودفع أهل الذمة إليه، ولا يصح تفضيل ترك أهل الكفر في دار الإسلام وتمكينهم مع قولهم في الله - تعالى -ما لا يليق بذاته وصفاته - تبارك وتعالى - للوصول إلى عرض يسير من الدنيا، بل إن مما يجب علينا أن نتحرى كل ما يمكن فعله لدفعهم إلى الإسلام، لا أن نسعى إلى إعاقتهم عن الإقبال على الله، لأخذ عرض من الدنيا قليل.
قال أبو داود في باب: ليس على المسلمين جزية: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم: أن النصراني إذا أسلم وضعت عنه جزية رقبته"(9).
وقد رجح ذلك ابن قدامة في المغني واستدل له بالأدلة التالية:
1- ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس على المسلم جزية"(10).
2- ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج"(11) يعني الجزية.
3- قال أحمد: وقد روي عن عمر أنه قال: "إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه"(12).
4- روي أن ذمياً أسلم فطولب بالجزية وقيل: إنما أسلمت تعوذاً، قال: إن في الإسلام معاذاً، فرفع إلى عمر، فقال عمر: "إن في الإسلام معاذاً، وكتب ألا تؤخذ منه الجزية" رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى(13).
5- لأن الجزية صغار(14)، فلا تؤخذ منه، كما لو أسلم قبل الحول.
6- لأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام، كالقتل.
وهو ما ذهب إليه من المفسرين: الجصاص(15)، وإلكيا الهراسي(16)، وابن العربي(17).
قال الجصاص: "ويدل على سقوطها أن الجزية والجزاء واحد، ومعناه: جزاء الإقامة على الكفر ممن كان من أهل القتال، فمتى أسلم سقط عنه بالإسلام المجازاة على الكفر، إذ غير جائز عقاب التائب في حال المهلة وبقاء التكاليف".
وقال إلكيا الهراسي: "ويدل قوله - تعالى -: حتى" يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون 29 - صلى الله عليه وسلم -التوبة: 29 على أنه بالإسلام يزول هذا المعنى، فلا جرم لا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- بدائع الصنائع: (112/7)، والبناية: (675/6).
2- الخرشي على خليل: (145/3)، وحاشية الدسوقي: (202/2).
3- المغني: (221/13).
4- أحكام القرآن للجصاص: (100/3).
5- الحاوي الكبير: (313/14)، والمجموع: (304/21)، وفيه: "للشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان: أحدهما: عليه من الجزية بالقسط كما لو أفاق بعد الحول".
6- أحكام القرآن للجصاص: (100/3) ط دار الكتاب العربي.
7- شرح الزركشي على مختصر الخرقي: (576/6).
8- سنن أبي داود: (439/3).
9- سنن أبي داود: (28/3).
10- أخرجه أبو داود (3053)، والترمذي (633)، وأحمد في المسند: (223/1، 285)، والدارقطني: (156/4)، والبيهقي: (198/9، 199)، وابن عدي في الكامل: (2072/6)، قال في مجمع الزوائد (13/6): "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم"، والحديث صحح إسناده أحمد شاكر في المسند: (291/3)، رقم: (1949)، (200/4)، رقم: (2576)، وضعفه الألباني في الإرواء: (99/5)، وفي سنده قابوس ابن أبي ظبيان، قال ابن عدي: "قابوس أحاديثه متقاربة، وأرجو أنه لا بأس به"، وقال الزيلعي في نصب الراية: (453/3) في تفسيره للجرح في قابوس: "وأعل ابن القطان حديث السنن - في كتابه - بقابوس بن أبي ظبيان، فقال: وقابوس عندهم ضعيف، وربما ترك بعضهم حديثه، وكان قد افترى على رجل، فحد، فترك لذلك".
11- أخرجه أبو داود: (3046)، وابن ماجه: (1831).
12- لم أقف عليه عند غيره، وانظر: إرواء الغليل: (99/5)، رقم: (1258)، حيث قال: لم أقف عليه. والمغني: (221/13).
13- أخرجه أبو عبيد في كتابه الأموال: (122)، والبيهقي: (199/9). وعبد الرزاق في المصنف: (94/6)، وابن أبي شيبة (335/12)، رقم: (12966). والحديث حسنه الألباني في الإرواء: (100/5)، رقم: (1259).
14- وذلك لقوله - تعالى -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون 29 " التوبة: 29.
15- أحكام القرآن للجصاص: (100/3).
16- أحكام القرآن للكيا الهراسي: (195/3).
17- أحكام القرآن لابن العربي: (924/2).