واقع الصحابيات في بيوتهن
لقد كانت المرأة في صدر الإسلام ربة البيت، وكانت المثل الأعلى في ذلك لمن جاء بعدها من ربات الأجيال، ربت رجالاً أفذاذاً، اجتباهم ربهم- تبارك وتعالى -ليكونوا مشاعل هداية وإصلاح، للبلاد التي فتحوها، ونشروا في ربوعها الأمن والسلام والرخاء، من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
وحسبنا أن نورد نماذج من واقع المرأة في بيتها، في ذاك العهد المبارك، مما له دلالة على كثيرٍ من سمات ذلك المجتمع السامق.
ـ عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي ـ أي كان مريضاً ـ فخرج أبو طلحة فَقُبضَ الصبي ـ أي مات ـ فلمَّا رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟
قالت أم سليم ـ زوجته ـ: هو أسكن ما كان!! فقربت إليه العشاءَ فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ منها قالت: واري الصبي!! أي أدفنه، فلمَّا أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فأخبره، فقال: ((أعرستم الليلة؟! قال: نعم. قال: اللهم بارك لهما)). فولدت غلاماً، قال أنس: قال لي أبو طلحة أحفظهُ حتى تأتي به النبي- صلى الله عليه وسلم -، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: ((أ معه شيء؟ قالوا: نعم، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم -فمضغها ثم أخذ من فيه فجعلها في فيَّ الصبي وحنكهُ به وسمُاه عبد الله)). [1]
- وروى ابن إسحاق بسنده عن أسماء بنت عميس قالت: لما أُصيب جعفر وأصحابه في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وقد دبغت منا ـ المن الذي يوزن به، وهو رطل، وتعني به أربعين رطلاً من دباغ ـ وعجنتُ عجينتي، وغسلتُ بنيَّ ودهنتهم ونظفتهم، قالت: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((ائتني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم، فتشممهم وذرفت عيناه!! فقلتُ يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغكَ عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم، قالت: فقمتُ أصيحُ واجتمعت إليّ النساء، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنهم قد شغلوا لأمر صاحبهم)). [2]
- وروت أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: تزوجني رسول الله –صلى الله عليه وسلم - ، فانتقلني، فأدخلني بيت زينب بنت خزيمة- أم المساكين- بعد أن ماتت، فإذا جرة، فاطلعتُ فيها فإذا كعب من شعير، وإذا رحى وبرمة ـ والبرمة: القدر من الحجارة ـ وقدر، فنظرتُ فيها فإذا كعب من إهالة ـ والإهالة: الشحم والزيت وكل مأْ تدم به ـ قالت: فأخذتُ ذلك الشعير فطحنتهُ، ثم عصدتهُ في البرمة وأخذتُ الكعب من الإهالة فأدمته به، قالت: فكان ذلك طعامُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وطعام أهله ليلة عرسه. ([3])
وليس بخافٍ ما في هذه الصور المشرقة من كريمِ صفاتِ ربات البيت اللائي عاصرن الوحي، وتلقين توجيهات الإسلام بنفسٍ مفعمةٍ بالإيمان، فطبقنها في الواقع العملي كأحسنِ ما يكون، تطبيق من خدمة الزوج والولد، والقيام بأمور البيت، وهل أدلُ على ذلك ما روتهُ كتب السيرة، ووعته ذاكرة التاريخ، من أنَّ فاطمة الزهراء، ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأكرم أهله عليه، يقول زوجها- رضي الله عنه-
(كانت تجرِ الرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها!! ووقمت البيت ـ أي كنسته ـ حتى أغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها، وأصابها من ذلك ضر!! )) [4]
ولقد كانت نساءُ الفترة الزاهرة، يتحملن المشاق والصعاب في الحياة الزوجية دون كللٍ أو ملل، تروي لنا أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- وعن أبيها قالت: بعد أن تزوجت الزبير: ((كنتُ أعلفُ فرسهُ وأكفيه مئونته، وأسوسهُ وأدُق النوى لناضحه، وأعلفه وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، وكان يخبزنَ لي جاراتٍ من الأنصار، وكنَّ نسوة صدق!!
قالت: وكنتُ أنقل النوى من أرض الزبير على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ، قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني)). [5]
- ولقد كانت المرأة تباشرُ خدمة زوجها فضلاً عن رعاية البيت ومصالحه، تقول عائشة- رضي الله عنها-: ((كنت أرجِّلُ رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأنا حائض)) [6] وتقول وقد أرفقتهُ -صلى الله عليه وسلم -في الحج: ((كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بأطيب ما كنت أجد من الطيب حتى أرى وبيص ـ الوبيص: أي البريق ـ الطيب في رأسه ولحيته قبل أن يحرم)). [7]
ويقول- عليه الصلاة والسلام - عن خديجة أم المؤمنين- رضي الله عنها-: ((كانت أم العيال وربة البيت)) [8].
ويقول في نساء قريش المؤمنات، وهُنَّ القدوة لغيرهن: ((خير نساءٍ ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على يتيم في صغره، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)) [9].
قال ابن حجر: والحانية على اليتيم: هي التي تقومُ عليه في حالة يتمه فلا تتزوج، والراعية على زوج هي: الأحفظ والأصون لماله بالأمانة فيه، والصيانة له، وترك التبذير في الإنفاق. [10]
ولقد كان لبعضهن مواقف باهرة، في السمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستجابة الكاملة لتوجيهاته، فهذه سودة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها- ((قيل لها: مالك لا تحجينَ ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججتُ واعتمرتُ، وأمرني الله أن أقرَّ في بيتي، فو الله لا أخرجُ من بيتي حتى أموت. قال: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرجت بجنازتها)). [11]
----------------------------------------
[1] رواه البخاري (5470) ومسلم (2144).
[2] سيرة ابن هشام (2/380).
[3] الطبقات الكبرى (8/92).
[4] رواه أحمد (1/153) وأبو نعيم في الحلية (1/70).
[5] رواه البخاري (5224) ومسلم (2182) واللفظ لمسلم.
[6] رواه البخاري (295)
[7] رواه النسائي (2690-2694) وكذا: البخاري (271) ومسلم (1190).
[8] الطبقات الكبرى 8/57).
[9] رواه البخاري (5365) ومسلم (2527).
[10] فتح الباري (9/125).
[11] أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين.انظر:الدر المنثور (6/599-600).