مهلاً يا دعاة التحرر
الخطبة الأولى:
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(1).
أيها المؤمنون، إن قضية المرأة من القضايا الكبرى التي شغلت الأفكار، واستفزت كثيراً من الأقلام، وافترق فيها الناس طرائق عدة ومذاهب شتى، تراوحت بين الغلو والتقصير وبين الإفراط والتفريط، وهذا الاضطراب وذاك التخبط لا نستغربه ممن لم يهتدِ بنور الإسلام، ولم يعرف السنة والقرآن ولا ما كان عليه سلف الأمة الكرام، لكننا نستغربه غاية الاستغراب من أقوام نشؤوا في بلاد الإسلام، وعرفوا شيئاً من السنة والقرآن، وعندهم من يعلمهم ما جهلوه من أهل العلم والبيان: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2).
فلماذا هذا التخبط في شأن المرأة، ولماذا هذا الاضطراب؟ (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(3).
أيها المؤمنون، إن هذا الدين العظيم يستمد أحكامه وتصدر شرائعُه من لدن عزيز حكيم، عالمٍ بالخلق وما يصلحهم في معاشهم ومعادهم: (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(4).
أيها المؤمنون، إن دين الإسلام دين عدل ورحمة لا ظلم فيه بوجه من الوجوه فالله - جل وعلا - لا يظلم الناس شيئاً: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(5)، فدين الإسلام أعطى كل ذي حق حقه لا وكس ولا شطط لا هضم ولا ظلم، فجميع شرائع الإسلام الحاكمة على المرأة أو على الرجل شرائعُ عدل وخير، تكفل لكل من أخذ بها الأمن والاهتداء، ومن داخله في ذلك شك أو ريب فظن الخير والعدل في غير شرائع الإسلام فقد خلع عنه ربقة الإيمان والله ورسوله منه بريئان (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(6).
أيها المؤمنون، إن الله تعالى قد كرّم بني آدم ذكوراً وإناثاً، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وإن نظرة عجلى في بعض آيات الكتاب الحكيم وأحاديث السنة المطهرة تكسب الناظر المنصف يقيناً ثابتاً، وإيماناً راسخاً، بأن الإسلام كرم المرأة وحرّرها من كل سيئة وسوءه، فالمرأة في دين الإسلام حرة كريمة مصونة، ذات حقوق مرعية، لا ظلم عليها ولا جور، وقد أكدّ النبي صلى الله عليه وسلم تكريم المرأة وصيانة حقوقها، في أعظم مجمع شهده - صلى الله عليه وسلم - في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع، فقال: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله))(7) رواه مسلم.
أيها المؤمنون، المرأة في الإسلام شريكة الرجل لا تعاني من خصام معه ولا نزاع، بل هي مكملة له وهو مكمل لها، هي جزء من الرجل وهو جزء منها، قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(
، وقال في آية أخرى: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(9)، فعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمع المسلم علاقة موالاة ومناصرة ومؤاخاة وانتماء، فالرجل والمرأة جناحان لا تقوم الحياة البشرية السوية إلا بهما.
أيها المؤمنون، المرأة في دين الإسلام هي الأم التي جعلها أحق الناس بحسن الصحبة، والمرأة في دين الإسلام هي البنت التي من أحسن تربيتها ورعايتها كانت له ستراً من النار، والمرأة في دين الإسلام هي الزوجة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))(10).
أيها المؤمنون، إن المرأة في دين الإسلام هي كالرجل تماماً في الغاية من الخلق، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(11).
فالمرأة والرجل خلقا جميعاً لعبادة الله وحده لا شريك له، وبقدر تحقيق واحد منهما لهذه الغاية ينال من الكرامة والهداية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(12).
أيها المؤمنون، إن الأصل في أحكام الشريعة المطهرة استواءُ الرجال والنساء في الأحكام إلا ما اقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يكون خاصاً بأحدهما فهما مستويان في جميع ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان وأركانهِ وفيما عليهما من أركان الإسلام وواجباته، وكذلك هما مستويان في جزاء الآخرة، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)(13).
هذا أيها المؤمنون غيض من فيض، وقليل من كثير من الدلائل على أن المرأة في دين الإسلام تعيش حياة عزيزة كريمة، موفورة الاحترام، مصونة الجانب، محفوظة الحقوق ليس كمثلها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها وعلو مكانتها.
معاشر المسلمين، إن دين الإسلام ليس في مقام تهمة نحاول دفعها عنه، وليس فيه نقص نجهد في إخفائه أو ستره، بل هو شمس مشرقة لا نقص فيه ولا مطعن: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسلامَ دِيناً)(14).
فرضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وإنما هو البيان وإقامة الحجة ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فتن تطيرّ الألباب وتقلب القلوب والأبصار نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، إن العجب لا ينقضي من أقوام زعموا كذباً وميناً أنهم دعاة لتحرير للمرأة والخروج بها مما هي فيه من الظلم والقهر، فيا لله العجب ممَّ يحررونها؟ أمن دين الإسلام الذي لا سعادة للبشرية إلا به؟ أم من الاقتداء بالسلف الصالح في الحشمة والحياء والعفة والصيانة؟ أحقاً يريد أدعياء التقدم ودعاة التحرر تكريم المرأة وتحريرها؟ أم يريدون تجريدها من العفة والحياء وتقييدها بأوضار السيئة الرذيلة.
أيها المؤمنون بالله مَنْ هم أدعياء تحرير المرأة؟ وما تاريخهم؟ ما الذي قدمه هؤلاء للأمة حتى يوثق بهم وبما يقولون ويدعون؟ إن جانباً من نتاج هؤلاء كاف في إسقاط عدالتهم والثقة بهم، فالمتتبع لكتابات هؤلاء يجد فيها الهمز والتشكيك بأحكام الشريعة وآداب الإسلام تحت مسمى (نبذ التقاليد البالية)يجد فيها التلميح والتصريح بالدعوة إلى تقليد الأمم الغربية وأنه لا تقدم ولا رقي إلا بمسايرة أمم الكفر (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)(15) بعبارات برّاقة فضفاضة يدسون فيها السم (يُوحي بَعْضهُمْ إِلى بَعضٍ زُخرُفَ الْقوْلِ غُرُوراً)(16).
أيها المؤمنون، إن دعاة تحرير المرأة يقولون: المرأة المسلمة في البلاد السعودية المباركة امرأة مهيضة الجناح مسلوبة الحقوق مصادرة الإرادة مهمشة الدور لا وزن لها في المجتمع ولا أثر، هذه دعواهم بهتاناً وزوراً تضليلاً وتلبيساً يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون.
فما حل هذه المشكلة أيها المؤمنون في نظر هؤلاء؟ إن الحل عند دعاة التحرر أن تَهُبَّ المرأة من سباتها وتنزع حجابها الذي عطلها وألغى دورها؛ إن الحل عند أولئك أن تنخلع المرأة من حيائها فتخالط الرجال الأجانب؛ فعدم الاختلاط شذوذ وانحراف؛ إن الحل عند هؤلاء أن تقوم الخصومة والمنازعة المريرة بين رجال المجتمع ونسائه؛ هذه حلولهم وأطروحاتهم، مهما حاولوا إخفاء وجهها القبيح، خابوا وخسروا فالله جل في علاه لا يصلح عمل المفسدين.
أيها المؤمنون، أما نتيجة هذا السعي المشؤوم فلسنا والله سعداء بأن نراه في بلادنا الحبيبة الغالية كيف وقد شرق به أهله ومن سار في ركابهم، فالسعيد من وعظ بغيره فحديث الإحصاءات والدارسات عما تعانيه المجتمعات الغربية من دمار ووبال من كثرة الزنا ورواج البغاء وتفكك الأسرة وانخفاض نسبة الزواج وارتفاع معدلات الطلاق وكثرة الخيانة وأولاد الزنا واللقطاء وشيوع الأمراض بأنواعها النفسية والعصبية والبدنية كاف عن خوض غمار هذا المستنقع الآسن، ولو أنك سألت أحد هؤلاء الأدعياء هداهم الله وكفى المسلمين شرهم: ما النموذج الأمثل الذي تقدمه للمرأة السعودية؟ لم تجد عنده إلا نموذج المرأة الغربية المطحونة الغارقة في حمأة الرذيلة التي تتلمس من ينقذها وينتشلها لا من يتأسى بها.
أيها المؤمنون، إن قضية المرأة قضية كبرى تحتاج إلى عناية فائقة ورعاية تامة ومعالجة منبثقة من هدي كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح وإن أي معالجة لقضية المرأة من غير هذا السبيل إنما هي وهم وضلال فاتقوا الله عباد الله، استمسكوا بالعروة الوثقى، و احذروا هؤلاء المرجفين المشككين: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)(17).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء: 1.
(2) النحل: 43.
(3) النور: 50.
(4) الملك: 14.
(5) فصلت: 46.
(6) النساء: 65
(7) أخرجه مسلم في الحج من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - (رقم 1218).
(
التوبة: 71.
(9) آل عمران: 195.
(10) أخرجه الترمذي في المناقب (رقم 3895) من حديث عائشة، وأخرجه ابن ماجه في النكاح (رقم 1977) من حديث ابن عباس.
(11) الذاريات: 56.
(12) الحجرات: 13.
(13) غافر: 40.
(14) المائدة: 3.
(15) النساء: 108.
(16) الأنعام: 112.
(17) الإسراء: 9-10.