خطبه الجمعة
الخطبة 0017 : أخلاق المؤمن
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1974-12-20
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة....
ينـظر بعـض' الجهـلة مـن الناس إلى المتدينين نظرةً لا تستثير إعجابهم بـل تثيـر شـفـقـتهـم أحيـاناً , وسخريتهـم أحياناً أخرى.
فالدّيـن في نظرهـم رجل فاته قطار الحياة , فلا يعرف من مباهجها إلا قليلا, يعد العدة لما بعد الموت ولا يـدري أحد ماذا بعــد المـوت ؟ ويعـزو كل شـئ إلى السـماء ويرضى به... وبعـضهـم يشـتط في أحكامه فـيتهـم المتـديـن بأنه رجلٌ متواكل جامـد التفـكيـر ضيق الأفـق متنـاقـض في سـلوكه يأمـر الناس بما لا يأتـمر به وينـهاهم عّما لا ينتهي عنه , متعصب لرأيه منكرٌ على الآخرين ما عـندهم , يُـهـمل مظهرة ويتـوانى فـي عـمله ويتـرك العـمل بالأسـبابْ ويرضى أن تـُهضَـمَ حقـوقـُه وتـُنـتـَقـَص مكانتـه... إلى ما هُنالِك من افتراءات...
أيـها الإخوة...
هذه النموذجات من صنع وجدانـهـم السـقـيـم وخيا لهـم الكسـيح... وإن وجدت في المجـتـمع حقاً فهي ليـسـت من صفات المؤمنـيـن في شـئ بـل هي من صفات الأدعـياء الجاهليـن و المـنـافـقـيـن المارقـيـن....
أيـها الإخوة المؤمنـون:
المؤمن شخصية فزه إليـها تـنجذب' النفـوس وبها تتعلق الأبصار ومـن نورها تهـتـدي القـلوب في دروب الحيـاة , المـؤمن الحق رجـلٌ نـيـر الذهـن و القـلب معاً حاد البـصر والبـصـيـرة جـميـعاً , تـتـعـانـق فـكرته وعاطفـتـه فلا تـدري أيـهـا أسـبـق صدق أدبـه أم حـسـنُ معـرفـتـه ولا تـدري أيهـما أورع خصوبة نـَفـسِهِ الجـياشه أم فـطانة عـقـله اللـمّاح
المـؤمن الحق ذو أفـق واسـع و نظر جيـد و محاكمه سـليـمة , و المؤمن الحق مـنـغـمس في سـعادة لا تـقـوى متـع الأرض الحسـيـة أن تـصرفـه عنها.
المؤمن الحق ذو أخلاق أصلية لا تـسـتـطيع سـبائـك الذهـب اللامعة ولا سـياط الجلاديـن اللاذعة أن تـقـوضها.
المؤمن الحق كالجبـل رسـوخاً و كالصخـر صـلابة و كالشـمس ضياءً و كالبـركان تدفـقاً وكالبحر عـمقاً و كالسـماء صـفاءً و كالربـيـع نـضا رة و كالماء عـذوبة و كالعـذراء حيـاءً و كالطفـل وداعة...
أيـها الإخوة المؤمنـون...
جـاء في كتاب الجامع الصغير للسيوطي حديثٌ جامعٌ عـن رسـول الله (ص) يتضـمن بعـض أخلاق المؤمـن فـقـد قال سـيـد الأنبياء المرسـليـن عـليه صلاة رب العالميـن:
((إن من أخلاق المؤمن قـوة ً في ديـّن , و حـزماً في ليـن وإيمانا في يـقـيـن , وحـرصاً في علـم , و شـفـقـة فـي حـقـه , و حـلماً فـي علـم
و قصداً في غنىً , و تجملاً في فاقة , و تحرجاً عن طمع , و كـسـباً في حلال , و بـِراً في إسـتـقامة , و نـشـاطاً في هـدى , و نهـيـاً عن شهوة
و رحـمة للمجهـود.. و إن المؤمن من عـباد الله لا يَحيف على من يـبـغـض , ولا يأثم فـيـمـن يحب ولايضّـيع ما اسـتودع , ولا يحـسِـد ولايطعـن ولا يـلعـن , و يعـترف بالحق وإن لم يشـهد عليه , ولا يتـنـابز بالألقاب , في الصلاة متخـشـعاً إلى الزكاة مسـرعاً في الزلازل وقـوراً في الرخاء شـكوراً قانعـاً بالذي له لايدعي ما ليـس له , ولا يجمح في الغيـظ ولا يغـلبه الشـح عن معـروف يريده , يخالط الناس كي يعلم و يناطق الناس كي يـفـهم , و إن ظلم و بغي عليه حـَبـَر حتى يكـون الرحـمن هو الذي يـنـتـصر له ))
(أخـرجه الحكيم عـن جنـدب بـن عبـد الله.)
أيـها الإخوة المؤمنـون..
هذه بعـض أخلاق المـؤمـن كما نـصّ عليـه الحـديـث إنها:
أولاً - تعريـف بالحـّد الأدنى من أخـلاق المؤمن.
ثانياً - مقـياس دقـيـق وشـعـور صادق يكشـف للمرء درجة إيمانه عن طريق الموازنة بـيـن أخلاقه و أخلاق المؤمن كما جاءت فـي الحـديث. فـبـهـذا المقـياس الدقـيـق يـقـيـّم المرء نفـسـَه ويضعُها في مكانها الصحـيح من سُـلـم الإيـمان ويـعرف حجـم إيـمانها الحـقـيـقي...
وهي ثالثاً - تحـديـد للأهـداف الأخلاقـية التي على الإنـسـان أن يـسـعى إلى بـلوغها...
أيـها الإخوة:
أعـيـد عليـكـم نـصّ الحـديـث.. أولى صـفات المؤمن (قوة في الدين) المؤمن قـوي في الحق لا يخشـى غيـر الله ولا تأخـذه لـومة لائم لا يسـتحي من بـتـمسـكه بتـعاليم الدين , ولا يترك الصلاة خشـية أن يعـرف الناس أنـه يصـلي , ولا يـسـتحي في رمضان أن يقـول إني صائم ولا يتحـرج في المـواقـف الصعبة أن يـقـول لا بملء فـمه , ولا يجـرفه تيـار المجـتمع , ولا تسـتخـفـه صرعات العـصـر ولا تغـريه زخارف الدنيا , هِـمتـه عاليه ورأسـه مرتـفع و نفـسه عـزيزة و يـده عُليـا.
قال عليـه الصلاة و السـلام
(( المؤمن القـوي خـير مـن المؤمن الضعيـف ))
و في بعض الظروف الاستثنائية يسـتطيع أن يكتم إيمانه دون أن يأ ثم فـبهـذا يَتـقي ما أمر الله به أن يـُتـقى.
و ثاني صفات للمؤمن ( حـزم فـي ليـن ) فهو بين الشـدة و اللين مـرغـوب و مرهـوب , لا يعـصر ولا يـكـسـر , في قـلبه رحمة وفي مظهره حـزم , يهابه من رآه ويجـده من يخـالطه.
أيـها الإخوة المؤمنـون...
خـطب سـيـدنا عُمـر رضي الله عنه خُـطبة استهل بها عهـد خلافـتـه فـقـال:
)) بـلغـني أن الناس هابو شـدتي و خافـو غلظـتي و قالو: كان عُمر يـشـتـد ورسول الله بين أظهرنا ثم اشـتد علينا وأبو بكر والينا دونه فكـيف وقـد صارت الأمور إ ليه ).. ألا من قال هذا فـقـد صدق فإني كنت مع رسـول الله عونه و خادمه , وكان عليه السـلام من لا يبلغ أحد صفـته في اللين والرحمة وكان كما قال الله تعالى:
﴿بالمؤمنين رؤوف رحـيم ﴾
فكنت بين يديه سـيـفاً مسـلولاً حتى يغـمدني أو يـدعني فأمضي فـلم أزل مع رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم على ذلك حتى تـوفاه الله وهو عني راضٍ الحـمد لله على ذ لك كثـيراً وأنا به أسـعد... ثم ولي أمـر المسـلمين أبو بكر فـكان من لا تنكرون دَعَته و كـرمه و لينه , فكنتُ خادمه وعونه أخلط شـدتي بـلينه فأكون سـيـفاً مسـلولاً حتى يغـمدني أو يَدعني فـأمضي... فـلـم أزل معه كذلك حتى قـبـضه الله عزوجـل وهو عـني راضٍ و الحمد لله على ذلك كثـيراً وأنا به أسـعد...ثم إني قـد وليـت أمـوركم أيها الناس , فاعلوا أن تلك الشدة قد أضِعفَتْ و لكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي , فأما أهل السـلامة والدين والقـصد فأنا أليـن لهـم من بعـضهم لبعض و لـسـتُ أدع أحـداً يـظاـم أحد أو يعتـدي عليه حتى أضع خـدهُ على الأرض حتى يذعن للحق , وإني بعـد شـدتي تلك أضع خـدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف... ولكم علي أيها الناس خصالُ أذكرها لكم فـخـذوني بها: لكم عليّ ألا أجـتبي شـيئاً من خراجكم وما أفـاء الله عليكم إلا من وجهه , ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألاّ يخرج مني إلا في حـقه ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شـاء الله تعالى , وأسُـدَ ثـغوركم , ولكم عليّ ألا ألتقـيكم في المهالك وإذا غبتم في البعوث (الجهاد) فأنا أبو العـيال حتى ترجعـوا إليـهم , فاتـقـوا وأعينـوني على أنـفـسـكم بكـفـّها عني , وأعيـنـوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النـصيـحة فـيـما ولاّني الله من أمركم
أيها الإخوة..
هو نموذج من الحـزم اقترن بالليـن أرجو الله أن يـوفـقـني في خـطب قادمة أن أفـصل في أخلاق المؤمن كما وردت في حـديـث رسـول الله صـلى الله عليه وسـلم الذي جاء في الجامع الصغيـر عن الحـكيـم عن جـنـدبِ بنِ عبد الله.
(( من عمل صالحاً فلنـفـسـه ومن أسـاء ))
والحمد لله رب العالمين