الأم قدوة متحركة في أرجاء البيت
يقول الشيخ محمد قطب : " إن من السهل تأليف كتاب في التربية ، ومن السهل تخيل منهج ، ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه ، وعندئذ فقط يتحول إلى حركة .. يتحول إلى حقيقة".
ولقد علم الله سبحانه وتعالى بحاجة هذا المنهج إلى بشر يحمله ويحوله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته إلى واقع محسوس وملموس لذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليترجم هذا المنهج وليكون خير قدوة للبشرية جمعاء، وذلك عندما وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج .
لقد كان عليه السلام خير بشر متحرك لترجمة القرآن إلى سلوك واقعي على مرأى من البشر الذين اقتدوا به واهتدوا.
لذلك فالإسلام يعترف بان أعظم الوسائل نجاحاً في التربية وأجداها في توصيل المبادئ والقيم هي القدوة .. ولابد أن تكون هذه القدوة ملازمة للإنسان سنين حياته كلها ابتداء من لحظة إدراكه ووعيه بما يدور حوله ..
لا بد للطفل من قدوة ينهج نهجها ويكّون مبادئه وقيمه وعقائده منها ، لا بد للطفل من أسرة بل أم تكون نموذجا متحرك في أرجاء المنزل تترجم كل ما تعلمته و ما خبرته من الحياة إلى سلوك مادي يلمسه طفلها إذ أن من غير المعقول أن يكون سلوكها وتصرفاتها مخالفا لما تقوله وقد استنكر ذلك الباري الأعظم في قوله تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:2،3]. ويقول الباري تبارك اسمه
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة:44] .
إن الطفل بمثابة الرادار الذي يلتقط كل ما يدور حوله فإن كانت الأم صادقة أمينة خلوقة ،كريمة ، شجاعة ، عفيفة ، نشأ ابنها على هذه الأخلاق الحميدة والعكس نجده إذا كانت الأم تتسم بسمات عكس السمات السابقة سمات ما أنزل الله بها من سلطان كأن تكون كاذبة جبانة غير خلوقة ينشأ الطفل على الكذب والخيانة والتحلل والجبن ، لأن الطفل مهما كان استعداده طيبا ومهما كانت فطرته نقية طاهرة سليمة صافية فإنه ما لم يوجه التوجه السليم وما لم يجد القدوة والنموذج الموجه الصالح فإنه بلا شك سينحرف إلى الجانب السلبي من جانب شخصيته وصدق رسول الهدى عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى عندما قال :" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " رواه مسلم .
نعم هي فطرة سليمة نقية لكن عوامل التربية والتوجيه من القدوة التي أمام بصره هي التي تلعب الدور الفعال في جعل الطفل يستمر على فطرته التي ارتضاها الباري له أو ينحرف وينسلخ إلى اتجاهات عقائدية مغايرة لتلك الفطرة .
إن الأم الواعية الحريصة على الأمانة التي أسندها الباري إليها في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8] ؛ لابد لها من أن تتخذ من كتاب الله وسيرة رسوله العطرة ومنهاجه المنير الذي استقاه من رب العالمين على يد الروح الأمين جبريل عليه السلام المنبعين اللذين تستقى منهما المبادئ للقدوة الحسنة .
ولها في تلك المصادر أروع الأمثلة نذكر منها بعض ما ورد في السنة :
فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال : دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت يا عبد الله تعال حتى أعطيك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه، فقالت أردت أن أعطيه تمراً فقال : " أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتب عليك كذبة." رواه أبوداود .
وهذا مثال آخر يوضح كيفية أن تظهر الأم بمظهرالعدل
فعن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت امرأة ومعها بنتان وهي تسأل فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم خرجت فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار .
لذلك فعلى الأم أن تسلك مع أطفالها جميع السبل التي سلكها الهادي البشير مع الأطفال، وعليها أن تتحلى بها في حياتها اليومية لينشأ وليدها على الأخلاق الفاضلة ، ويتربى على المكارم ولينشأ على العقيدة الإسلامية الراسخة والخلق القرآني الرفيع .
إن الأم باعتبارها القدوة لابد لها وأن تكون صادقة في أقوالها مع ابنها وأبيه ومع غيرهما من الأشخاص سواء من أفراد الأسرة أم من بقية أفراد العائلة أو مع الآخرين من أفراد المجتمع .
وحين تريد تعويد طفلها على الأمانة فلا بد لها أن تكون أمينة مع زوجها في ماله وبيته ومع أهلها .
وعندما تريد تعويده على الرحمة فلا بد وأن تبدأ هي بالقيام بالأعمال التي تشعر طفلها بمدى رحمتها وعطفها وحنانها ، كأن ترحم الضعيف ، وتعطف على المسكين ، وتعين الفقير ، وترأف بالحيوان .
فالأم عندما تقوم بمثل الأعمال أمام طفلها فإنها تغرس في نفسه أهم مبادئ المحبة والتعاون والأمانة والصدق وبهذا تنمي الجانب الأخلاقي في طفلها .
والطفل الذي يرى والدته تكذب وتغش فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعلم الصدق والأمانة في يوم من الأيام.
والأم التي تكون في تبهرج وميوعة واستهتار لا يمكن أن يتعلم ابنها الفضيلة وحسن الخلق.
والأم التي تتلقط بالعبارات الهدامة وتستهزئ بالغير وتتسم بالغضب والانفعال والقسوة ؛ لا يمكن أن يكون طفلها على درجة من الأخلاق ولا يمكن أن ينطق بجميل عبارة ولا يمكن أن يتسم بالاتزان في تصرفه وصدق الشاعر عندما قال :
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
وخلاصة الأمر أن الأم لكي تتمكن من تربية طفلها التربية الجسمية والخلقية والروحية، ولكي تكون القدوة الحية المتحركة في المنزل ولكي تكون نموذجاً رفيعاً لما تلقنه من القيم والمبادئ وما تصوره من المثل ومكارم الأخلاق، لابد لها أن تكون صورة تعكس حقيقة السلوك الذي تنادى به وتحث ابنها على ضرورة الالتزام به حتى لا يقع طفلها في تناقضات خطيرة ، فيختلط عليه الأمر وتلتبس عليه الحقائق والمفاهيم فلا يستطيع وقتها بل لا يعد قادراً على التمييز بين الزائف والصحيح .