من أشراط الساعة .. استحلال المعازف وظهور المغنيات
لهوٌ ولغو، ومكاءٌ وتصدية، ورقية الزنا، وباعث النفاق في القلب، وصوت الشيطان، كلّها أوصافٌ وأسماءٌ تعلّقت بالغناء المصاحب لآلات اللهو والطرب، تلك الأسلحة الفتّاكة التي يستخدمها إبليس لحصد ضحاياه من البشر وسوقهم إلى المعاصي بمختلف أنواعها، والمجموعة في قوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} (الإسراء:64).
وثمّة ثالوثٌ للغواية لا يكاد ينفكُّ واحدٌ منها عن الآخر: الموسيقى التي تُسكر القلوب، والخمور التي تُغيّب العقول، ومزامير الشيطان النسائيّة التي تفتن الأرواخ بأصواتها، وتُخدّر المشاعر بسمومها، وقد عقد الشيطان بين هذه الأمور الثلاثة عقداً لا ينفسخ، وأحكم بينها برباطٍ لا ينفصم، وما فسد الناس إلا حين أطلقوا لغرائزهم العنان فتساهلوا في السمع، وأطلقوا لأبصارهم العنان، وجعلوا جلسات الطرب وقوداً لشهواتهم، وحطباً لملذّاتهم.
أما الخمر ففقد تكلّمنا عنه باستفاضةٍ في موضوع آخر، وبيّنا ارتباطها بأشراط الساعة التي جعلها النبي –صلى الله عليه وسلم- مقدّماتٍ يُستدلّ بها على قرب نهاية الحياة والغروب الأخير لشمسها، وبقي الحديث عن مسألة المعازف واستحلالها، والمغنّيات وانتشارهنّ.
وفي هذا السياق تأتي عددٌ من الأحاديث التي توضّح العلاقة بين المغنّيات والمعازف، وبين أشراط الساعة، يتقدّمها حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلّون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَم، يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجةٍ فيقولون: ارجع إلينا غداً. فيبيّتهم الله، ويضع العَلَم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) رواه البخاري، فالعَلَم هو الجبل، ومعنى: (يروح عليهم بسارحةٍ لهم) يعني يذهب إليهم الراعي بغنمهن، والمقصود بالتبييت: الإهلاك بالليل، ووضع العَلَم: هو الأمر الكوني الإلهي بسقوط الجبل على رؤوسهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه،أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا استحلّت أمتي ستاً فعليهم الدمار: إذا ظهر فيهم التلاعن، وشربوا الخمور، ولبسوا الحرير، واتخذوا القِيَان، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء) رواه الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.
والظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استحلّت أمتي ستاً) أن الاستحلال له معنيان، أن يكون على وجه الاعتقاد بحلّه، أو الإكثار من فعل هذه المذكورات، وكلاهما محتملٌ في الحديث، والإمام ابن العربي يشير إلى هذين المعنيين بقوله: "يُحتمل أن يكون المعنى يعتقدون ذلك حلالاً، ويُحتمل أن يكون ذلك مجازاً على الاسترسال، أي: يسترسلون في شربها كالاسترسال في الحلال".
أما التلاعن: فهو أن يلعن الناسُ بعضهم بعضاً –وهو الأمر المنتشر في أيّامنا هذه للأسف الشديد-، وأما اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء: فهو عدول الناس عمّا أباحه الله من الزواج إلى ارتكاب فاحشة اللواط بين الرجال والسحاق بين النساء، وأما القِيَان، فهو جمع قَينة، وتُطلق في الأصل على الأمة التي تقوم بالمهن المختلفة، ولذلك يقول العلماء: "القينة الماشطة، والقينة المغنية، والقينة الجارية، وكل صانع عند العرب قَيْن"، إلا أن الأغلب في الأحاديث أن يُقصد به التي تقوم بالغناء أو العزف.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يكون في أمتي قذفٌ ومسخٌ وخسفٌ)، قيل: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال
إذا ظهرت المعازف، وكَثُرت القِيَان، وشُربت الخمور) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن.
ومعنى المسخ في الأصل: قلب الخِلْقَة من شيء إلى شيء، أو تحويل الصورة إلى أقبح منها، والمسخ قد يكون بقلب الصورة على وجه الحقيقة، كما حدث في بني إسرائيل حين مُسخوا قردةً وخنازير، ويمكن أن يكون كذلك مسخ القلوب وتطبّعها بأخلاق الحيوانات، فتذهب الغيرة كما هو الحال مع الخنازير، ويفشو التقليد كما هو الحال مع القردة، وتظهر الدناءة كحال الضباع، إلى غير ذلك مما هو مشهورٌ ومعلوم، وهذا النوع من المسخ الأخلاقي تعدّدت صوره في واقعنا المعاصر، وهو الأمر الذي يُفسّر انسلاخ الحياء والدياثة والتقليد الأعمى والدناءة والخبث الذي ابتُلي به فئامٌ من العصاة.
ولا يستطيع أحدٌ إنكار ما آلت إليه الأمور، بما يتطابق مع مضامين الأحاديث السابقة، فالمعازف قد انتشرت واستشرت في جميع مناحي الحياة وعمّت بها البلوى، ولا يكاد المرء يسلم من سماعها راضياً كان أم مُكرهاً، علاوةً على هذا الانتشار المخيف فقد تزايد المستحلّون لها والمفتون بجوازها والمجادلون في حرمتها؛ مغالطةً منهم ولبساً للحقّ بالباطل.
أما ظهور "القَيْنات المعاصرة" فليسوا من الجواري، ولكن من ممتهنات الفنّ والطرب من المغنّيات، وما يُمارسنه في القنوات الفضائيّة وعلى خشبات المسارح والحفلات الصاخبة فأمرٌ يطول شرحه، ولا يتسع المقام لذكره، ولا شك أن الحرمة في زماننا آكد من قبل نظراً لتوسّع مظاهر الفسق والتحلّل الأخلاقي، والتصوير الفاضح ووجود الراقصات، في زمنٍ لا يُقام فيه وزنٌ لعالمٍ فاضل، وباحث محقق ، ومخترعٍ عظيم، في مفارقة عجيبة تذيب القلب كمداً وتملؤه أسى ولوعة.
والله سبحانه وتعالى حينما يقول: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين} (لقمان:6)، فلا شكّ أن الغناء يدخل في ذلك دخولاً أوليّاً، لأنه مما يصد ويُلهي عن ذكر الله.
وكلام العلماء في تحريم الغناء خصوصاً من النساء مستفيضٌ في كتبهم، فالإمام الشافعي يقول:"وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته"، بل صحّ عنه قوله:"هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا".
وعن فضيل بن عياض أنه قال: "الغناء رقية الزنا"، وقال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب"، وقال يزيد بن الوليد: "يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يزيد الشهوة ويهدم المروءة وأنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السُّكْر".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدّب ولده قائلاً: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن جلّ وعز، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهو بها، ينبت النفاق في القلب كما يُنبت الماء العشب".
وأخيرا: فقد جاء أحدهم إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فسأله عن الغناء، فقال له: "أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟" قال الرجل: يكون مع الباطل، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "اذهب، فقد أفتيتَ نفسك".