المناهج الخاصة للمحدثين - منهج الإمام الطبراني
حاز الإمام أبو القاسم سليمان بن أحمد الشامي الطبراني لقب "مسند الدنيا"، واستحق أن يكون من فرسان علم الحديث مع الصدق والأمانة - كما نعته بذلك الإمام الذهبي -، وليس ذلك بغريبٍ على من عُمِّر مائة سنة ملأها بالاشتغال بطلب العلم في جميع الفنون ثم تعليمها لطالبيها.
وقد وضع الإمام الطبراني خلاصة سنوات عمره في معاجمه الثلاثة (الصغير والأوسط والكبير)، حيث قال عن المعجم الكبير: "هذا كتاب ألفْناه جامعٌ لعدد ما انتهى إلينا ممن روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرجال والنساء، على حروف ألف ب ت ث".
ورغم أن المعاجم الثلاثة بينها شيء من الاختلاف في طريقة تصنيفها، إلا أن بينها توافقًا في أشياء أخرى، تنمُّ جميعها عن أسلوب متميز، ومنهج فريد لمحدث من الطراز الرفيع، يستحق أن يتم دراسة منهجه وأسلوبه وطريقته.
أولاً: شروطه في أحاديث "المعاجم":
1- تفاوت درجات الأحاديث: تباينت أسانيد المعاجم الثلاثة صحة وضعفًا، لأن الإمام الطبراني لم يعطِ هذا الأمر اهتماما كبيرا، لكونه لم يقصد من هذه المعاجم جمع الأحاديث الصحيحة، بل وضع فيها غالب ما وصله من الأحاديث.
2- استيعاب مرويات الصحابة: التزم الإمام الطبراني في (المعجم الكبير) باستيعاب مرويات المقلين من الصحابة رضوان الله عليهم، وذِكْر عددٍ من مرويات كل صحابي متوسط أو مكثر.
3- إيراد أسماء الصحابة الذين ليست لهم رواية: كان الإمام الطبراني يهدِفُ إلى التعريف بالصحابة في (المعجم الكبير)، فأورد أسماء الصحابة الذين لم يكن لهم رواية، وعرَّف بهم، وذكَر فضائلهم - من مرويات غيرهم -.
4- جمع الأحاديث الغرائب والفرائد: قام الإمام الطبراني بجمع الأحاديث الغرائب والفرائد في (المعجم الأوسط)، فصار مصدراً أساسياً لعلل الحديث، حيث قام بالتنصيص على وجه الغرابة وموضوع التفرد أو المخالفة فيها، وكذا فعل في (المعجم الصغير)، ولكن الفرق بين المعجمين: الصغير والأوسط: أنه أورد في الصغير حديثًا واحدًا في الغالب, أو حديثين في النادر لكلّ شيخ من شيوخه، وأما الأوسط فقد أورد كل المرويّات التي سمعها لكل شيخ من شيوخه.
ثانياً: منهجه في ترتيب أحاديث "المعاجم":
رتب الإمام الطبراني المرويات على مسانيد الصحابة غالبا، ورتب الصحابة على حروف المعجم، وقسمهم إلى رجال ونساء، ولكنه بدأ بذكر الخلفاء الراشدين على ترتيب خلافتهم، ثم أتبعهم بذكر بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم التزم بعد ذلك بترتيب أسماء الصحابة وفقاً لحروف المعجم، وكان يترجم لكل صحابي في مستهل مسنده؛ بذكر نسبه ثم صفته ثم سنده ووفاته، ثم ما أسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، ويمكن تلخيص ترتيبه في النقاط التالية:
1- طريقة المسانيد: رتب المرويات على حسب مسانيد الصحابة رضوان الله عليهم غالبا، ولكنه يروي في مسند الصحابي أحاديث ليست من روايته، وذلك عند التعريف بهذا الصحابي وذكر فضائله، وعند بيان صحبة من ليست له رواية، وهو في أكثر الأحوال يسوق ما يتعلق بنسبة الصحابي، ثم ما يتعلق بصفته، ثم ما يتعلق بسنِّه ووفاته، ثم يبوب بقوله: "ومما أسند عن..".
2- ترتيب الأحاديث في الباب: تنوعت طريقته في ترتيب ما يسنده ويرويه الصحابي على أحوال، منها:
- أنه يصنف مرويات الصحابي على الأبواب الفقهية.
- يقسم مرويات الصحابي المتوسط الرواية أو المكثر على تراجم من روى عنهم، فإذا كان ذلك الراوي عن الصحابي مكثراً أيضاً، قسم مروياته على حسب من روى عن الراوي عن الصحابي، ومن ذلك: ما صنع عند مسند جابر بن سمرة رضي الله عنه، حيث قال: "سماك بن حرب عن جابر بن سمرة"، ثم قال بعده: "سفيان الثوري عن سماك" وساق مرويات الثوري من هذا الطريق, ويبدأ برواية الصحابة الرجال ثم النساء عن الصحابة، ثم برواية التابعين الرجال ثم النساء عن الصحابة، وربما رتب تابع التابعين عن الرواة عن الصحابة على حسب البلدان كما صنع عند مسند: سهل بن سعد رضي الله عنه حيث ترجم بقوله: "ما روى أبو حازم: سلمة بن دينار عن سهل بن سعد"، ثم ترجم بقوله: "رواية المدنيين عن أبي حازم" وبعد أن ساق مروياتهم، ترجم بقوله: "المكيون عن أبي حازم"، وبعد أن ساق مروياتهم، ترجم بقوله: "رواية البصريين عن أبي حازم"، وكذا أيضاً قال: "رواية الكوفيين عن أبي حازم".
- يجمع في مرويات الصحابي بين التصنيف على الأبواب الفقهية، وبين تقسيم المرويات على حسب التراجم، ومنه صنيعه عند مسند جبير بن مطعم رضي الله عنه حيث قسَّم مروياته على حسب من روى عنه، ثم صنف أحاديث هؤلاء الرواة عن الصحابي، على الأبواب الفقهية.
- أحياناً يبوب بما يدل على اقتصاره على غرائب ما رواه الصحابي، مثل صنيعه عند مسند أبي ذر رضي الله عنه، حيث يقول: "من غرائب مسند أبي ذر".
3- تقديم أكابر الصحابة: بدأ مسانيد الرجال من الصحابة بمسانيد العشرة المبشرين بالجنة، وقدم الأربعة الخلفاء رضوان الله عليهم، ثم ساق باقي الصحابة، ورتبهم على حروف المعجم، وبدأ بأصحاب الأسماء ثم بأصحاب الكنى، ثم جعل النساء في قسم مستقل، فبدأ بمسانيد بنات النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وقدم منهن: فاطمة ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهن، ثم أمامة بنت أبي العاص, وهي: بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أعقبهن بزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وقدم منهن: خديجة ثم عائشة ثم بقية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال في مقدمة مسانيد النساء: "ما انتهى إلينا من مسند النساء اللاتي روين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خرجت أسماءهن على حروف المعجم، وبدأت ببنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه لئلا يتقدمهن غيرهن، وكانت فاطمة أصغر بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأحبهن إليه، فبدأت بها لحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها"، ثم ساق بقية النساء على حروف المعجم، وقسمهن كطريقته في تقسيم الرجال، إلا أنه زاد في النساء: قسم للمبهمات من الصحابيات رضوان الله عليهن.
وقد التزم الإمام الطبراني بمنهجه سالف الذكر في (المعجم الكبير)، وأما المعجمين (الأوسط والصغير) فقد رتب أحاديثهما تبعًا لأسماء شيوخه طبقا لترتيب حروف المعجم، وخرّج تحت كل اسم حديثًا أو حديثين، وعقَّب كل حديث ببيان ما في سنده من تفرد.
ثالثاً: منهجه في تكرار الحديث:
لم يسلك الإمام الطبراني سبيل التكرار في شيء مما أورده، حيث لم يكن يكرر حديثًا بسنده ومتنه كما هو، بل لا بد من مغايرة، تتمثل غالبًا في تعدد الطرق التي وصَلَهُ الحديث منها، وهذا من شأنه تقوية الحديث ورفعه من درجة إلى التي أعلى منها.
وإذا تكرّر سندٌ واحد لعدّة أحاديث من مرويات شيخ واحد، فإنه يذكر السند كاملاً في أول موضع، ثم يقول فيما يليه: " وبه..."، وإن تكرر بعض السند فيقول فيما يليه: "وبه إلى فلان... "، ثم يعقِّب كل حديث ببيان ما وقع فيه من الانفرادات فيقول: "لم يروه إلا فلان عن فلان.."، أو: "تفرّد به فلان عن فلان...".
رابعاً: منهجه في الموقوف والمقطوع:
1- الآثار الموقوفة: اشتملت المعاجم على المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أكثر مروياته، ولكن (المعجم الكبير) اشتمل أيضا على كثير من الموقوف ولا سيما أنه يبدأ بالتعريف بالصحابي، ويذكر بعض شمائله وفضائله وأقواله، ومن ذلك ما ذكره في مسند أبي بكر الصديق ومسند عمر بن الخطاب ومسند أبي عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم أجمعين.
2- الآثار المقطوعة: اشتملت المعاجم على أقوال التابعين أيضا ومن دونهم، ولكن (المعجم الكبير) كان به أكثر تلك الأقوال، لاسيما تلك المتعلقة بالتعريف بالصحابة رضوان الله عليهم، وذكر صفاتهم ونحوها، وقد نبه الإمام الطبراني إلى ذلك في مقدمة المعجم الكبير بقوله: "ومن لم يكن له رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان له ذِكر من أصحابه من استشهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو تقدم موته، ذكرته من كتب المغازي وتاريخ العلماء"، وهو يروي كل ذلك بالإسناد.
خامساً: منهجه في نقد الرجال:
لم يُكثر الإمام الطبراني من الكلام في جرح الرجال وتعديلهم في المعجمين (الكبير والأوسط)، ولكنه فعل ذلك في (المعجم الصغير)، حيث تكلم على بعض الرواة جرحًا وتعديلاً، وبيّن أسماء بعض من ذكر بكنيته، وأزال اللبس في بعض الأسماء المتشابهة، وتكلم على الاختلاف الواقع في بعض الأسماء، ونبه على بعض الأوهام التي وقعت من بعض الرواة، في شيوخهم أو من فوقهم في أسانيد هذا الكتاب.
سادساً: منهجه في صنوف متفرقة:
1- صيغة الأداء في الرواية: جميع روايات المعاجم مروية بصيغة الأداء "حدثنا"، وهي أرفع صيغ الأداء، كما قرر ذلك الإمام ابن الصلاح.
2- تراجم الأبواب وعناوينها: إذا دارت عدة أحاديث لصحابي حول موضوع واحد، ووجد المؤلف أن هناك مرويات لصحابي آخر لها تعلق بهذا الموضوع، فإنه يذكرها بغضِّ النظر عن أنها ليست تحت ترجمة ذلك الصحابي، وقصده من ذلك استكمال النفع بالموضوع الواحد في موضع واحد، ثم يرجع فيستكمل مرويات الصحابي المترجم.
وأيضا فقد ذكر الإمام الطبراني أبوابًا ولم يترجم لها بترجمة، فيقول: "باب" فقط، وهذا يفعله إذا ما كان بين هذا الباب والذي قبله أو بينه والذي بعده اتصال في الموضوع.
وإذا اشترك عدد من الصحابة في اسم واحد أفرد لهم بابًا خاصًا وعنون له بعنوان: "باب من اسمه كذا".
3- عنايته بشرح الغريب وتوضيح المبهم: كان الإمام الطبراني يشرح بعض الكلمات الغريبة، ويبيِّن بعض العبارات المبهمة، وربما تعرض لذكر بعض الآراء الفقهية، وقد يذكر تاريخ وفيات بعض الرواة، أو تاريخ القصة التي وقع فيها الحديث، وقد يتعرض لتصحيح بعض المرويات.
وختاما: فإن معاجم الإمام الطبراني تعد من مصادر السنة النبوية الأصيلة ذات الأهمية الجليلة؛ ومن الموسوعات الكبيرة المسندة؛ وذلك لاشتمالها على كثير من الزوائد على الكتب الستة، وكذا تُعَد من أبرز المصادر الأصيلة في معرفة الصحابة، وذكر أنسابهم ووفياتهم وفضائلهم، ويتجلَّى فيها ما ينبئ عن إمامة مؤلفها وسعة علمه، نسأل الله أن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.