ما مدى أهمية إظهار التعاطف مع المسلمين ؟
ما مدى أهمية إظهار التعاطف مع المسلمين ؟
الحمد لله
أولاً:
ختم الله تعالى الرسالات بدين الإسلام ، فجاءت أحكامه وتشريعاته غاية في الحكمة ، ومصلحة للفرد والمجتمعات إلى قيام الساعة .
ومن أبرز ما جاءت به الشريعة المطهرة : العلاقة بين المسلمين بعضهم مع بعض ، فجاءت التشريعات واضحة بينة تقوي تلك العلاقة ، وتحرِّم كل ما يفسدها ويدنسها ، ومن تلك التشريعات الربانية في تقوية العلاقات بين المسلمين بعضهم مع بعض : وجوب التواد والتراحم والتعاطف بينهم .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
" ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يُعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع ، وأن يُنادى بالارتباط بها دون غيرها : إنما هي دين الإسلام ؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع ، حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
فربْط الإسلام لك بأخيك : كربط يدك بمعصمك ، ورِجلك بساقك ، كما جاء في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ، ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ ؛ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه ، كقوله تعالى : ( وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ) البقرة/84 ، الآية ، أي : لا تخرجون إخوانكم ، وقوله : ( لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) النور/ 12 ، أي : بإخوانكم ، على أصح التفسرين ، وقوله : ( وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ ) الحجرات/11 ، الآية ، أي : إخوانكم ، على أصح التفسرين ، وقوله : ( وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ ) البقرة/ 188 ، الآية ، أي : لا يأكل أحدكم مال أخيه ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) " انتهى .
" أضواء البيان " ( 3 / 130 ، 131 ) .
ثانياً:
من الأهمية بمكان إظهار ذلك التعاطف مع المسلمين ، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم ، ولهذا الإظهار فوائد شتَّى ، منها :
1. أن ذلك يعتبر من كمال الإيمان الواجب .
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ) رواه البخاري ( 467 ) ومسلم ( 2585 ) .
وبوب عليه النووي بقوله : بَاب تَرَاحُمِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ .
قال النووي – رحمه الله - :
" قوله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً ) ، وفي الحديث الآخر ( مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم ) إلى آخره : هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض ، وحثهم على التراحم ، والملاطفة ، والتعاضد ، في غير إثم ، ولا مكروه ، وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام .
قوله صلى الله عليه وسلم ( تداعى لها سائر الجسد ) أي : دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة في ذلك ، ومنه قولهم " تداعت الحيطان " أي : تساقطت ، أو قربت من التساقط " انتهى .
" شرح مسلم " ( 16 / 139 ، 140 ) .
وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) رواه البخاري ( 5665 ) ومسلم ( 2586 ) .
قال المناوي – رحمه الله - :
" قال ابن أبي جمرة : الثلاثة وإن تفاوت معناها : بينها فرق لطيف ، فالمراد بالتراحم : أن يرحم بعضهم بعضاً لحلاوة الإيمان ، لا لشيء آخر ، وبالتواد : التواصل الجالب للمحبة كالتهادي ، وبالتعاطف : إعانة بعضهم بعضاً " انتهى .
" فيض القدير " ( 5 / 656 ) .
وفي رواية – عند مسلم - : ( الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ ) .
وفي رواية : ( الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
" ولهذا كان المؤمن يُسرُّه ما يُسرُّ المؤمنين ، ويسوؤه ما يسوؤهم ، ومَن لم يكن كذلك : لم يكن منهم ! فهذا الاتحاد الذي بين المؤمنين : ليس هو أن ذات أحدهما هي بعينها ذات الآخر ، ولا حلت فيه بل ، هو توافقهما ، واتحادهما في الإيمان بالله ورسوله ، وشُعَب ذلك : مثل محبة الله ورسوله ، ومحبة ما يحبه الله ورسوله " انتهى .
" مجموع الفتاوى " ( 2 / 373 ، 274 ) .
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في " فتح الباري شرح صحيح البخاري " : " وهذا التشبيك من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : كان لمصلحة ، وفائدة ، لم يكن عبثاً؛ فإنه لما شبَّه شد المؤمنين بعضهم بعضاً بالبنيان : كان ذلك تشبيهاً بالقول ، ثم أوضحه بالفعل ، فشبَّك أصابعه بعضها في بعض ؛ ليتأكد بذلك المثال الذي ضربه لهم بقوله ، ويزداد بياناً وظهوراً .
ويفهم من تشبيكه : أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض ، فكما أن أصابع اليدين متعددة : فهي ترجع إلى أصل واحد ، ورجُل واحد ، فكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم : فهم يرجعون إلى أصل واحد ، وتجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح ، وأخوة الإيمان .." انتهى .
2. ومنها - أي : من فوائد إظهار التعاطف مع المسلمين - إزالة الحواجز التي وُجدت من رواسب الجاهلية ، أو الاستعمار ، من عصبية للغة ، أو لون ، أو جنس .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
" ولا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر ; لأن القومية ليست ديناً سماويّاً يمنع أهله من البغي والفخر , وإنما هي فكرة جاهلية ، تحمل أهلها على الفخر بها ، والتعصب لها على من نالها بشيء , وإن كانت هي الظالمة ، وغيرها المظلوم , فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق .
ومن النصوص الواردة في ذلك : ما رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي ، الناس بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ) ، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوباً وقبائل للتعارف ، لا للتفاخر والتعاظم , وجعل أكرمهم عنده هو أتقاهم , وهكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى ، ويرشد إلى سنة الجاهلية : التكبر ، والتفاخر بالأسلاف ، والأحساب , والإسلام بخلاف ذلك , يدعو إلى التواضع ، والتقوى ، والتحاب في الله , وأن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم , جسداً واحداً , وبناءً واحداً ، يشد بعضهم بعضاً , ويألم بعضهم لبعض " انتهى .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 290 ، 291 ) .
3. ومنها : القيام على الضعَفة والعجَزة والمساكين ، رعايةً ، وعنايةً .
وفي " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 20 / 348 ) : " ومن ذلك : تولِّي اليتامى ، والمساكين ، والعجزة عن الكسب ، ومن لا يُعرف لهم آباء ، بالقيام عليهم ، وتربيتهم ، والإحسان إليهم ؛ حتى لا يكون في المجتمع بائس ، ولا مهمل ؛ خشية أن تصاب الأمة بغائلة سوء تربيته ، أو تمرده ، لما أحس به من قسوة المجتمع عليه ، وإهماله " انتهى .
5. ومنها : نصرة المظلوم من المسلمين في كل مكان ، وإعانته بما يُستطاع ، قتالاً معه ضد الظالم المغتصب ، أو إعانته بالمال ، ومن عجز عن ذلك ، فلن يعجز عن دعاء لهم بالنصر والتثبيت والتأييد .
" ولقد قرر العلماء رحمهم الله : أنه لو أصيبت امرأة مسلمة في المغرب بضيمٍ : لوجب على أهل المشرق من المسلمين نصرتها , فكيف والقتل ، والتشريد ، والظلم ، والعدوان، والاعتقالات بغير حق , كل ذلك يقع بالمئات الكثيرة من المسلمين فلا يتحرك لهم إخوانهم ، ولا ينصرونهم ، إلا ما شاء الله من ذلك ! ... " انتهى .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 2 / 163 - 165 ) .
6. ومنها : قطع طمع أعدائهم بهم .
فلو علم الأعداء من الكفار أن المسلمين يد واحدة ، حزنهم واحد ، وسرورهم واحد : لما اعتدى ظالم فاجر على مسلم ، فضلاً أن يُعتدى على بلدٍ مسلم ، تستباح أعراض نسائه ، وتُنهب أمواله ، ويشرَّد رجاله .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : " فهذه الأحاديث وما جاء في معناها : تدل دلالة ظاهرة على وجوب التضامن بين المسلمين , والتراحم والتعاطف , والتعاون على كل خير , وفي تشبيههم بالبناء الواحد , والجسد الواحد : ما يدل على أنهم بتضامنهم ، وتعاونهم ، وتراحمهم : تجتمع كلمتهم , وينتظم صفهم , ويسلمون من شر عدوهم " انتهى .
فتاوى الشيخ ابن باز " ( 2 / 200 ، 201 ) .
ثالثاً:
قد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في التطبيق العملي للتعاطف والتراحم :
1. عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَآخَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِىِّ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ ) رواه البخاري ( 3937 ) .
ولا ندري أيهما أعجب : الكرم والإيثار من سعد بن الربيع أم عزة النفس والرغبة في الاكتساب بجهد اليد من عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنهم .
2. عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه – أيضاً - قَالَ : قَالَ الْمُهَاجِرُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا فِي كَثِيرٍ ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَئُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَإِ ، حَتَّى لَقَدْ حَسِبْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ ، قَالَ : ( لَا ، مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ، وَدَعَوْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ ) رواه أحمد برقم (12662) ، والترمذي برقم (2487) ، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في " مشكاة المصابيح " (2/185) .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب