شبهة (أسماء الإشارة)
توضيح الشبهة
زعم أصحاب هذه الشبهة أن هناك اضطرابا وتعارضا في الاستخدام القرآني لأسماء الإشارة , واستدلوا لدعواهم بقول الله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة,2) , وقوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } ( الأنعام , 92) .
حيث أشار عز وجل إلى القرآن في الآية الأولى بأداة الإشارة للبعيد ( ذلك) , وفي الآية الثانية بأداة الإشارة للقريب ( هذا ) .
الرد على الشبهة
إن صاحب هذه الشبهة لم يعلم أن في اللغة العربية ما يسمى بتنوع أساليب التعبير ؛ بل في اللغات عامة , ولهذا التنوع مقتضياته ؛ فلكل عبارة سياقها الذي يقتضي وجهاً بعينه من وجوه التركيب , ينسحب هذا على أدوات الإشارة وغيرها .
فقد يشار إلى القريب بالأداة الموضوعة للإشارة إلى البعيد ؛ إذا أريد تعظيم المشار إليه وبيان علو منزلته , كما أن تبادل البعيد مع القريب وارد في العربية .
وفي الإشارة إلى القرآن العظيم باسم الإشارة ( ذلك ) في الآية ملمحان بلاغيان :
الأول : تعظيم القرآن .
والثاني: زيادة التنبيه , وهذا الغرض البلاغي لا يتحقق إلا بالمخالفة , أي أن يؤتى بأداة الإشارة للبعيد في حين أن المشار إليه حاضر ماثل , كما في البيت المذكور .
وقد صرح النحاة بجواز استعمال ( هذا) , ( ذلك) في مثل هذا السياق , ومن ذلك قول ابن مالك :
" وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه , وذو القرب عن ذي البعد لحكاية الحال , وقد يتعاقبان مشاراً بهما إلى ما ولياه من الكلام .
والقرآن الحكيم استعمل أداة البعد في آية البقرة لما سبق بيانه .
وأما في الآية الثانية فجاء باسم الإشارة للقريب ( هذا ) ؛ لأنه قد سبق الكلام على الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن , في قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } ( الأنعام, 91).
ثم استؤنف الكلام على كتاب آخر غير " الكتاب الذي جاء به موسى " , وهو القرآن الكريم الذي ينزل عليهم ( الآن ) : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } , فأشير إليه بإشارة القريب كي لا يضطرب الكلام و يلتبس ؛ إذ لو قيل : " وذلك كتاب أنزلناه مبارك " , لكان الكلام استمرار لما قبله , وحينئذ يكون المشار إليه هو كتاب موسى المذكور .
من هنا آثر القرآن الحديث عن القرآن بلفظ الإشارة للقريب ( هذا ) ليصرف الأذهان عما سبق ذكره ويلفتها إلى الكتاب الذي يتنزل عليهم , الحاضر بين أيديهم لترغيبهم في العكوف عليه وتدبر آياته .
فلكل تركيب لغوي سياقه الذي يقتضي مقتضيات تعبيرية بعينها , حتى وإن تساةت أساليب التعبير في نقل المعنى , يظل لكل تركيب خصوصيته ( البلاغية ) الزائدة على مجرد نقل المعنى .
وإذن فليس ثمة تعارض بين الإشارة إلى القرآن مرة بـ (ذلك ), وأخرى بـ( هذا ) , بل حكم عالية وملامح بلاغية رائعة .
=============
المصدر : كمال اللغة القرآني بيم حقائق الإعجاز وأوهام الخصوم , د/محمد محمد داود (بتصرف يسير ).