شبهة (التناقض في معاني الألفاظ)
توضيح الشبهة
زعم أصحاب هذه الشبهة أن في القرآن الكريم مخالفات دلالية , ومن هذه المخالفات:
التناقض في معاني الألفاظ ؛ حيث ادعى أن أصحاب هذه الشبهة أن القرآن يستخدم اللفظ الواحد في المعنى ونقيضه , واستدلوا لذلك بقوله تعالى: { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } ( البقرة , 46) , فمدح الذين { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } , وفي قوله عز وجل : { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً }( النجم , 28) .
والظن هنا مذموم , وهذا في زعمهم تناقض .
الرد على الشبهة
نقول وبالله التوفيق : لو أنهم راجعوا كتب اللغة – بل لو كان عندهم طرف من المعرفة بمبادئ علم اللغة – لما أوردوا هذه الشبهة الواهية .
فمن المسلمات المعروفة في علم اللغة : ظاهرة الإشتراك اللفظي , أو تعدد المعنى , وقد أفردت لهذه الطاهرة كتب كاملة نذكر منها :
• الأشباه و النظائر , لمقاتل بن سليمان البلخي.
• المنجد في اللغة , لكراع النمل .
ومن أنواع المشترك اللفطي في العربية ما يعرف بالأضداد , وهي كل لفظ يعبر عن معنى وضده , ومن الكتب التي أفردت لهذه الألفاظ :
• الأضداد , لابن السكيت .
• الأضداد , للأصمعي .
• الأضداد , للسجستاني.
• الأضداد , للصنعاني .
• الأضداد , لابن الأنباري .
وغير ذلك من الكتب التي أفردت لتك الظاهرة اللغوية المعروفة , حتى إنه لا يكاد كتاب في علم اللغة يخلو من الإشارة إليها باستفاضة أو بإيجاز .
وفي الإنجليزية هذه الظاهرة معروفة , يقول " ليش " في تعريفها : كلمتان أو أكثر تشتركان في النطق والهجاء , وكلمة واحدة لها معنيان أو أكثر .
وهل هناك أحد – ممن يدعي المعرفة باللغة – لا يعرف أن كلمة ( عين ) على سبيل المثال , لها معانٍ متعددة يحددها السياق ,مثل حاسة الإبصار, عين الماء, الجاسوس , حقيقة الشيء ( نحو : عين اليقين , الشخص عينه ) , الحسد ( أصابته عين .....إلخ ).
وقد نال لفظ (العين ) حظاً عظيماً من اهتمام اللغويين , وعكف بعضهم على حصر دلالته , فوصل بها أحدهم إلى ما يزيد على المائة , كما تردد هذا اللفظ كثيراً في كتب المشترك اللفظي , وغيرها من كتب اللغة , كأحد الألفاظ المهمة التي تمثل ظاهرة الاشتراك اللفظي أصدق تمثيل .
وكلمة (ظن ) من الكشرك اللفظي باتفاق علماء اللغة , يقول ابن فارس:
"الظاء والنون أصيل صحيح يدل على معنيين مختلفين : يقين , وشك ؛ فأما اليقين فقول القائل : ظننت ظناً , أي أيقنت , قال الله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إيه راجعون }, أراد – والله أعلم - : يوقنون .
والعرب تقول ذلك وتعرفه ، وهو كثير.
ومن هذا الكثير في القرآن ما أورده مقاتل بن سليمان , وبدأ به في تفسير الظن , فقال : الظن على ثلاثة وجوه : فوجه منها الظن بمعنى اليقين , وذلك في قوله تعالى : { وظن داود أنما فتناه } ( ص, 24) يعني : أيقن داود أنما ابتليناه , وقال في الحاقة: { إني ظننت أني ملاقً حسابية } (الحاقة, 20) , يعني : إني أيقنت , وفي البقرة : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } ( البقرة ,230) يعني : إن أيقنا .
ثم ذكر الوجهين الآخرين , وهما الشك , والتهمة .
ويزيدنا الراغب الأصفهاني إيضاحاً لهذه المسألة فيقول : الظن اسم لما يحصل عن أمارة , ومتى قويت أدت إلى العلم , ومتى ضعفت جداً لم يتجاوز حد التوهم .
وقد ساق الراغب أمثلة كثيرة من القرآن منها :
• { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } (يونس ,24) .
• {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون }( فصلت ,22) .
• {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم } ( فصلت , 23) .
وقد أطبق جمهور المفسرين قاطبة على أن قول الله عز وجل : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } ( البقرة , 46) يعني : يوقنون ؛ لأنه وصف للخاشعين , ومن وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه .
والمشترك اللفظي في القرآن الكريم مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في هذا الكتاب العظيم ؛ حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجهاً , أو أكثر أو أقل , ولا يوجد ذلك في كلام البشر , إلا مع اضظراب دلالي والتباس يشك على المخاطب ويضيع معه المعنى.
===============
المصدر : كمال اللغة القرآنية بين حقائق الإعجاز وأوهام الخصوم , د/محمد محمد داود (بتصرف يسير)