شبهة تعارض أسلوب المكي والمدني في القرآن
الكاتب: الشيخ// محمد عبد العظيم الزرقاني
الشبهة
-----------------------------
يقولون: إن الباحث الناقد يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثر ببيئات متباينة فنرى أن القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة كما نشاهد القسم المدني منه تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة.
فالقسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد مثل سورة (تبت يدا أبي لهب وتب) [المسد 1] وسورة (والعصر إن الإنسن لفي خسر) [العصر 1, 2] وسورة (ألهكم التكاثر) [التكاثر: 1] ومثل (فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد) [الفجر 13, 14].
والجواب
--------------
هذه الشبهة تتألف من شبهات أربع وإن شئت فقل تتألف من مقدمات ثلاث كواذب تتأدى أو يريد صاحبها أن يتأدى بها إلى نتيجة هي الأخرى كاذبة.
فأما المقدمات الثلاث الكواذب فهي أن القسم المكي تفرد بالعنف والشدة وأن فيه سبابا وإقذاعا وأنه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة.
وأما النتيجة أو الهدف الذي يرمي إليه فهو أن القرآن مفكك الأجزاء غير متصل الحلقات وأنه خاضع للظروف متأثر بالبيئة.
وغرضهم من هذا معروف طبعا وهو أن القرآن ليس كلام الله وليس معجزا إنما هو كلام محمد الذي تأثر أولا بأهل مكة فكان كلامه خشنا بعيدا عن المعارف العالية التي اكتسبها من أهل الكتاب في المدينة.
ذلك كله ما يجب أن نحمل عليه انتقاد أولئك المضللين فإن قرينة عداوتهم للحق وخصومتهم للإسلام ونقدهم للقرآن تبعد كلامهم عن كل تأويل حسن، وتحمله على أسوأ فروضه.
ولنأت لك على بنيان هذه الشبهة من القواعد لتعلم إغراقها في البطلان وإغراق ذويها في الكذب والإسفاف.
1 - فأما قولهم إن القسم المكي قد تفرد بالعنف والشدة، فينقضه أن في القسم المدني شدة وعنفا فدعوى تفرد القسم المكي بذلك باطلة قال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فأتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكفرين) [البقرة: 24] وقال فيها أيضا: (الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطن من المس) [البقرة: 275] وقال فيها أيضا: (يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) [البقرة 278, 279].
وقال سبحانه في سورة آل عمران وهي مدنية كتلك: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أمولهم ولا أولدهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) [آل عمران 10 - 12].
وإنما اشتمل القرآن الكريم بقسميه المكي والمدني على الشدة والعنف لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب وسياسة الأمم والدول تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين.
ثم إن دعواهم انفراد المكي بالعنف والشدة يفهم منه دعوى انفراد المدني باللين والصفح ودعوى خلو المكي من ذلك اللين والصفح وهذا المفهوم باطل كمنطوقه أيضا، ودليل ذلك أن بين السور المكية آيات كريمة تفيض لينا وصفحا وتقطر سماحة وعفوا بل تنادي أن تقابل السيئة بالحسنة.
كما في قوله سبحانه في سورة فصلت المكية: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صلحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوى الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدوة كأنه ولي حميم وما يلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم) [فصلت 33 - 35].
وكما في قوله سبحانه في سورة الشورى المكية: (فما أوتيتم من شيء فمتع الحيوة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفوحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين أستجابوا لربهم وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقنهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون وجزؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظلمين ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى 36 - 43].
وكذلك قوله سبحانه في سورة الحجر المكية: (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجا منهم ولا تحزن عليهم وأخفض جناحك للمؤمنين) [الحجر 87, 88] إلى آخر السورة.
ومثله قول الله جلت قدرته في سورة الزمر المكية: (قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر 53].
2 - وأما زعمهم أن في القسم المكي سبابا ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من القحة والبذاءة والخروج عن حدود الأدب واللياقة فقد "كبرت كلمة تخرج من أفوههم إن يقولون إلا كذبا" [الكهف 5].
ونحن نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله مكيه ومدنيه يكون من هذا اللون القذر الرخيص.
هل يعقل أن القرآن الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين فقال في سورة الأنعام: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) [الأنعام 108].
نعم إن في القرآن كله لا في القسم المكي وحده تسفيها لأحلام المتنطعين الذين يصمون آذانهم ويغمضون أعينهم عن الحق ويهملون الحجج والبراهين وهو في ذلك شديد عنيف بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يعدل عن سنن الحق ولم يصدف عن سبيل الحكمة.
بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة ومن مصلحتهم هم ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرعووا عن باطلهم ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ويسيروا على هدى الدليل والحجة على حد قول القائل.
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية كما تجده في السور المكية.
وإن كان في المكي أكثر من المدني لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة صعاب المراس مسرفين في العناد والإباء لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على الرسول وأصحابه ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل بل وجهوا إليه الأذى في مهاجره.
والشاهد على أن في السور المدنية تنويعا عنيفا أيضا عند المناسبات قوله سبحانه من سورة البقرة المدنية في شأن المشركين: (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم)[البقرة: 6 , 7]، وقوله من سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين: (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين) [البقرة: 8] إلى تمام ثلاث عشرة آية مليئة بالتوبيخ والتعنيف لتلك الحشرات الآدمية الذين ينفثون سمومهم ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذي حدين هو سلاح النفاق والذبذبة.
وكذلك تقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز تنقدهم وتنعي جرائمهم وتحمل عليهم حملة شعواء تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم.
مثل قوله سبحانه: (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) [آل عمران: 112] ومثل قوله: [بئسما أشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءو بغضب على غضب وللكفرين عذاب مهين) [البقرة: 90].
ومثل قوله تعالى في شأن النصارى من سورة آل عمران: (إذ قال الله يعيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين أتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والأخرة وما لهم من نصرين) [آل عمران: 55، 56]
وقوله فيهم أيضا من هذه السورة: (إن الذين كفروا بعد إيمنهم ثم أزدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) [آل عمران 90].
أما السور والآيات التي اعتمدت عليها الشبهة فلا تدل على ذلك السباب الذي زعموه ووصموا به القرآن الكريم لأن سورة: (تبت يدا أبي لهب وتب) [المسد: 1] غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبي لهب وامرأته جزاء ما أساءا إلى الرسول وصحبه كما يدل على ذلك سبب نزولها.
أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال لما نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] صعد النبي على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق الرسول.
وروي عن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة، فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبي لهب بما يستحق من إنذاره بالهلاك والقطيعة وأن ماله لا ينفعه ولا كسبه وأنه خاسر هو وامرأته وأن مصيرهما إلى النار وبئس القرار.
ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له ولأمثاله وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول وأصحابه، وذلك هو اللائق بالعدالة الإلهية والتربية الحكيمة الربانية.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأما سورة (والعصر) فليس فيها سباب ولا ما يشبه السباب، وكل ما عرضت له أنها جعلت الناس قسمين قسما غريقا في الخسران وقسما فاز ونجا من هذا الخسران وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة، اقرأ قوله سبحانه: (والعصر إن الإنسن لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصلحت وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [العصر: 1 - 3] فهل ترى فيها ظلا للسباب والإقذاع ولكن القوم لا يستحون.
وأما سورة (ألهكم التكاثر) [التكاثر: 1] فمبلغ ما تشير إليه أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين وألهتهم الأموال عن رب الأموال حتى انتهت أعمارهم وهم على هذه الحال، وغدا يسألون عن هذا النعيم ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم.
وأما قوله سبحانه(فصب عليهم ربك سوط عذاب) [الفجر 13] فهي حكاية لما حل بالأمم السابقة كثمود وعاد حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لأولئك الكفار ومزدجر فلا يقعوا فميا وقع فهي أسلافهم لأن سنة الله واحدة في الأمم وميزان عدالته قائم في كل جيل وقبيل: (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) [القمر: 43].
والخلاصة أن القرآن كله قام على رعاية حال المخاطبين فتارة يشتد وتارة يلين تبعا لما يقتضيه حالهم سواء منهم مكيهم ومدنيهم بدليل أنك تجد بين ثنايا السور المكية والمدنية ما هو وعد ووعيد وتسامح وتشديد وأخذ ورد وجذب وشد كما سبق لك في الأمثلة والشواهد الكثيرة وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدة والعنف فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول وأصحابه والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم، ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم.
وكان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول بعيدا عن كل معاني السباب والإقذاع متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع حاثا على الصبر والعفو والإحسان حتى ليخاطب الله رسوله في سورة الأنعام المكية بقوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمت الله ولقد جاءك من نبإى المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن أستطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) [الأنعام: 34 - 36].
كما أننا نلاحظ في آفاق الآيات والسور المكية ظاهرة باهرة تسكت كل معاند وتفحم كل مكابر في هذا الموضوع، وهي أن القسم المكي خلا خلوا تاما من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة كما خلت أيامه في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة فلم يسمع للمسلمين فيها صلصلة لسيف ولا قعقعة لسلاح ولا زحف على عدو.
إنما هو الصبر والعفو والمجاملة والمحاسنة بالرغم من إيغال الأعداء في أذاهم ولجاجهم في عتوهم وأساهم سبا وطعنا وقتلا ونهبا ومقاطعة ومهاترة ومصاولة ومكابرة.
3 - وأما زعمهم أن القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة فهو مردود عليهم باطل من كل باب دخلوه وعلى أي وجه أرادوه لأنهم إن أرادوا بذلك ما توهموه.
من انفراده بالشدة والعنف أو السباب والإقذاع فقد علمت مبلغ ما فيه من كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب في شطريه المكي والمدني على السواء.
وإن أرادوا بانحطاطه الإشارة إلى قصر آياته أو إلى خلوه من التشريعات التفصيلية العملية فهذا لا يدل على الانحطاط بل قصر الآيات والخلو من تفاصيل التشريع لهما وجه آخر يظهر عند الكلام عليهما في الشبهات الآتية.
وإن أرادوا بما ذكروا أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية فتلك ثالثة الأثافي لأن التاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب يصدرون عن رأيها ويرجعون إلى حكمها ويأخذون عنها ويركبون ظهور الإبل إليها وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة والذكاء والألمعية والشرف والنبل، وكان لها هذا الامتياز من قبل الإسلام، ثم دام لها وزاد عليها في الإسلام، واعترف لها به أهل المدينة وغيرهم من عرب وأعجام.
ثم إن وصف القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة تهمة جريئة وطعنة طائشة وأكذوبة مكشوفة ما رضيها لأنفسهم أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب وعرب وعجم وأميين ومثقفين على حين أن أولئك العرب كانوا على أميتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيه وعلوه ونزوله، كما كانوا أحرص الناس على إحراج محمد ودحض حجته ونقض دينه والقضاء على الإسلام في مهده، ولكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذي يهرف به الملاحدة في القسم المكي من القرآن.
بل نعلم بجانب هذا أن القرآن كان له سلطان على نفوسهم إلى حد خارق مدهش يقودهم بقوته إلى الإسلام ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته ويهتز لفصاحته وأن يأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثره بسماعه.
وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني والتعارض بين أسلوبيهما فهو زعم ساقط مبني على الاعتبارات الخاطئة الماضية التي أثبتنا بطلانها.
ثم هو دعوى ماجنة يكذبها الواقع ويفندها الذوق البلاغي المنصف، وأدل دليل على ذلك أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن لم يستطيعوا أن يتهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام ولا كذبا لأنهم كانوا أعقل من ملاحدة اليوم يرون أن هذا الاتهام يكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا.
بل هذا وحيدهم الوليد بن المغيرة يقول للملأ من قريش والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى ولما قالت قريش عندئذ صبأ والله الوليد واحتالوا عليه أن يطعن في القرآن لم يجد حيلة إلا أن يقول فقال: (إن هذا إلا سحر يؤثر) [المدثر: 24]، ولم يستطع أن يرمي القرآن بالتهافت والتخاذل وانقطاع الصلة بين أجزائه وانحطاط شيء من أساليبه على نحو ما يرجف أولئك الخراصون: (والله أعلم بما يبيتون)
4 - وإذا بطل هذا وما سبقه بطل ما زعموه من تأثر القرآن بالوسط والبيئة وما رتبوه عليه من أنه كلام محمد لا كلام رب العزة، ثم إنها اتهامات سخيفة لا تستحق الرد ما دام إعجاز القرآن قائما يتحدى كل جيل وقبيل ويفحم كل معارض ومكابر.
============================
المصدر/ مناهل العرفان.