شبهة حول أن الشيطان أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الرد على هذه الشبهة :
الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم يستندون في هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة بالناس سورة "النجم " فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : ( أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى )
؛ تقول الأكذوبة :
إنه صلى الله عليه وسلم قال : ـ حسب زعمهم ـ تلك الغرانيق (2) العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر صلى الله عليه وسلم في القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين !!
وذاعت الأكذوبة التي عرفت بقصة "الغرانيق" وقال ـ من تكون أذاعتها في صالحهم ـ : إن محمدا أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركي مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب .
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له .
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير في تفسيره الآيات التي اعتبرها المرتكز الذي استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهي في سورة الحج حيث تقول :
( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) (3) وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول : "ذكر كثير من المفسرين هنا قصة "الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة" ظنا منهم أن مشركي مكة قد أسلموا.
ثم أضاف ابن كثير يقول : ولكنها ـ أي قصة "الغرانيق" ـ من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، ثم قال ابن كثير : (4) عن ابن أبي حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال : "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "سورة النجم" فلما بلغ هذا الموضع { أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى} قال ابن جبير : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
قال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم . . فأنزل الله هذه الآية : {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم} ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان.
وربما قيل هنا : إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلا من إلقاء ما يلقيه من الوساوس في أمنيات الأنبياء .
والجواب عنه قد جاء في الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة :
أولا : ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار وهو ما جاء في الآية الأولى منهما : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } (5).
ثانيا : ليميز المؤمنين من الكفار والمنافقين فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ؛ وهو ما جاء في الآية الثانية : { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } (6).
هذا : وقد أبطل العلماء قديما وحديثا قصة الغرانيق . ومن القدماء الإمام الفخر الرازي الذي قال ما ملخصه (7) :
"قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول ؛ أما القرآن فمن وجوه : منها قوله تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحد عنه حاجزين }(
.
وقوله سبحانه : { وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}(9).
وقوله سبحانه حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم : { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفس إن أتبع إلا ما يوحى إلى } (10).
وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقي :
روى الإمام البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "النجم" فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث "الغرانيق" وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها البتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة "الغرانيق" بالمعقول فمن وجوه منها :
أ ـ أن من جوز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وسلم كان لنفي الأصنام وتحريم عبادتها ؛ فكيف يجوز عقلا أن يثني عليها ؟
ب ـ ومنها : أننا لو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق ـ في منطق العقل ـ بين النقصان في نقل وحى الله وبين الزيادة فيه .
جـ - أن اللغة العربية تُنكِر القصة : نقل الشيخ أبوشهبة (11) رأي الشيخ محمد عبده في رد هذه الفرية من ناحية اللغة العربية. فقد قال الشيخ عبده إن وصف العرب لآلهتهم بالغرانيق لم يرد لافي نظم ولا في خطبهم ، ولم ينقل عن أحد ذلك الوصف كان جارياً على ألنتهم إلا ماجاء في معجم ياقوت من غير سند، ولا معروف بطريق صحيح، والذي تعرفه اللغة أن الغُرْنوق، والغِرنوق، والغُرنيق، والغِرنيق اسم لطائر مائي أسود أو أبيض. ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل، ويطلق على غير ذلك، ولاشئ من معانية اللغوية يلائم معنى الإلهية والأصنام حتى يطلق عليها في فصيح الكلام الذي يعرف على أمرأء الفصاحة والبيان ..
ووجهآخر لبطلان هذه القصة من حيث الأسلوب اللغوي السليم هو قول المفترين أن آيات الغرانيق جاءت بين الآيات ( أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالة الأخرى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذاً قسمة ضيزى)(12)، والآيات ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (13)
ما هذا؟ ذم ثم مدح ثم ذم لذات الشئ. فلو أن القصة صحيحة لكان هناك تناسب بينها وبين ما قبلها وما بعدها، ولما كان النظم مفككا والكلام متناقضاً، وهو مما لا يخفى على المبتدئين في تعلم اللغة العربية ، دعك عن عرب قريش ، أهل الفصاحة والبيان (14).
وأما الآية التي اقترن تفسيرها بقصة الغرانيق : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم)(15) فخلاصة مايقال عنها: إن تفسير البخاري (التمني) بما نقله عن ابن مسعود غير ملزم لتعين تفسير (التمني) في الآية بالتلاوة والقراءة، وهو التفسير الذي كان مفتاحاً لباب اختراع أكذوبة الغرانيق وما اشتملت عليه من طامات وبلايا، لأن التمني جاء في الآية مطلقاً عن قيد الإضافة إلى الكتاب، فيم يذكر له مفعول قيد به(16)
د - أن القصة باطلة من حيث الزمان : مما ساقة الدكتور الشامي (17) لدحض هذه الفرية هو أن آيه سورة الحج ، آية التمني هذه، إن لم تكن مدنية، فهي مما نزل بين مكة والمدينة.
والحادثة حسب زعم رواتها – مكية ، فهل يعقل أن يكون ذلك الزمن غير القصير بين الحادثة وبين نزول الآية التي جاءت تعقيبا عليها؟.
المراجع والهوامش
1ـ النجم : 19 ـ 20.
2ـ المراد بالغرانيق : الأصنام ؛ وكان المشركون يسمونها بذلك تشبيها لها بالطيور التي ترتفع في السماء.
3ـ الحج : 52.
4ـ عن : التفسير الوسيط للقرآن لشيخ الأزهر د/ طنطاوي ج9 ص 325 وما بعدها .
5ـ الحج : 53.
6ـ الحج : 54.
7ـ التفسير السابق : ص 321.
8ـ الحاقة : 44 ـ 47.
9ـ النجم : 3 ـ 4.
10ـ يونس : 15.
11- السيرة العربية في ضوء القرآن والسنة (1/367)
12 - النجم : 19 – 22
13- النجم : 23.
14- انظر الغوالي: فقة السيرة ص118 ، محمد شهبة: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (1/371-372)
15-الحج : 52.
16-انظر عرجون: سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2/75)
17 - (1) من معين السيرة، ص76 – حاشية (3)
المصدر
1- كتاب حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة
2- موقع : طريق الحقيقة