شبهة (الصحابة آذوا علياً وحاربوه )
الشبهة
زعم أصحاب هذه الشبهة من الشيعة أن الصحابة قد آذوا علياً وحاربوه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من آذى علياً فقد آذاني ) .
الرد على الشبهة
أقول لأصحاب هذه الشبهة : إن تلك المحاربات كانت لأمور اجتهادية فلا يلحقهم طعن من ذلك , ولا بد ههنا من التفصيل ، ليتبين من هو على الحق ممن سلك التضليل فأقول : إعلم أن أعظم ما تداولت الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما وقع في زمن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، فنشأ منه وقعتان عظيمتان : وقعة الجمل ، ووقعة صفين , والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان رضي الله عنه ، وأنكر الهشامية تلك الوقعتين ، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمع، لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه .
وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان رضي الله عنه عنه صبراً توجع المسلمون ، فسار طلحة والزبير وعائشة – وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها – نحو البصرة ، فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم اعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ، ففاتوه ، وأرسل ابنه الحسن وعماراً يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة ، ولما قدموا البصرة أستعانوا بأهلها وبيت مالها ، حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله تعالى وجهه حاول الصلح واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك ، فثار قتلة عثمان وكان ما كان ، وانتصر علي كرم الله تعالى وجهه ، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة .
ولما ظهر علي رضي الله عنه جاء إلى أم المؤمنين رضي الله عنها فقال : ( غفر الله لك ), قالت : ( ولك . وما أردت إلا الإصلاح ) , ثم انزلها دار عبدالله بن خلف وهي أعظم دار في البصرة على سنيه بنت الحارث أم طلحة الطلحات ، وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها فقال رجل : يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة فأمر القعقاع بن عمر أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل .
ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغى من مركب وزاد ومتاع وأذن لمن نجا من الجيش أن يرجع إلا أن يحب المقام ، وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمداً .
ولما كان اليوم الذى ارتحلت فيه جاء علي كرم الله تعالى وجهه فوقف على الباب في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت : (( يا بني لا يغتب بعضكم بعضاً ، إنه ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه لمن الأخيار ), فقال علي كرم الله تعالى وجهه : ( صدقت ، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك ، وإنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة) وسار معها مودعاً أميالاً ، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم .
وكانت رضي الله تعالى عنها بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع تبكي حتى تبل خمارها . ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله تعالى وجهه دليل على خلاف ما تزعمه الشيعة من كفرها – وحاشاها رضي الله عنها – وفي ندمها وبكائها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار المعركة ، على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك .
وقال غير واحد إنها أجتهدت ولكنها أخطات في الاجتهاد ولا إثم على المجتهد المخطئ بل أجر على أجتهاده وكونها رضي الله تعالى عنها من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه .
نعم قالت الشيعة إنه يبطل إجتهادها أنه صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأزواجه كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب ، فإياك أن تكون يا حميراء , والحوأب كجعفر منزل بين البصرة ومكة قيل نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث وهو صريح في النهي ولم ترجع .
والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما سمعت ذلك وتحقيقه من محمد بن طلحه همت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلاً من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس الحوأب ، على أن ( إياك أن تكوني يا حميراء )) ليس موجوداً في الكتب المعول عليها عند أهل السنة فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد ، على أنه لو كان فلا يرد محذوراً أيضاً لأنها أجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان ، لو أنها علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه . وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشئ لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من إصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة .
وأما طلحة والزبير رضي الله عنهما فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه .
وأما طلحة فقد روى الحكم عن ثور بن مجزأة أنه قال : مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي : من أنت ؟ قلت : من أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فقال : أبسط يدك أبايعك ، فبسطت يدى فبايعني وقال : هذه بيعة علي ، وفاضت نفسه . فأتيت علياً رضي الله عنه فأخبرته فقال : الله أكبر صدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه .
وأما الزبير رضي الله عنه فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي صلى الله عليه وسلم له : لتقاتلن علياً وأنت له ظالم ، فقال : لقد اذكرتني شيئاً أنسانيه الدهر ، لا جرم لا أقاتلك أبداً ، فخرج من العسكرين نادماً وقتل بوادي السباع مظلوماً قتله عمرو بن جرموز .
وقد ثبت عند الفريقين أنه جاء بسيفه واستأذن على الأمير كرم الله تعالى وجهه فلم يأذن له ، فقال : أنا قاتل الزبير ، فقال : أبقتل أبن صفية تفتخر ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( بشر قاتل ابن صفية بالنار ).
وأما عدم قتله فلقيام الشبهة على ما قيل ، ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن أن أناساً من الصحابة رضي الله عنهم ذهبوا يتطرقون ، فقتل واحد منهم رجلاً قد فر وهو يقول : إني مسلم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ولم يقتل القاتل .
وكذا قتل أسامة رضي الله عنه فيما أخرجه السدى رجلاً يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً ولم يقبل عذره وقال له : كيف أنت ولا إله إلا الله ؟ ونزل قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً }(النساء:94).
وأجاب آخرون بأن العلماء أختلفوا في أنه هل يجب على الحاكم القصاص إذا لم يطلبه الولي أم لا ؟ ولعل الأمير كرم الله تعالى وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع . وروى أيضاً أن الأمير رضي الله عنه قال: لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه ( مرحباً بابن أخي ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين }(الحجر:17) وهذا ونحوه يدل على أنهما رضي الله تعالى عنهما لم يذهبا إلا طاهرين متطهرين .
وأما تلخيص الواقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية رضي الله عنه كان قد أستنصر ابنا عثمان رضي الله عنه ووكلاه في طلب حقهما من قتلة أبيهما ، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيرة إلى الشام خرج عن دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات ، فلما ورد الأمير رضي الله عنه دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا ، وطلبوا منه قتلة عثمان – وكانوا قد أنحازوا إلى عسكره ، ولهم عشائر وقبائل ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم – فمال رضي الله عنه إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره ، فأبي معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلاً .
وكثر القيل والقال حتى أتهم بنو أمية الأمير كرم الله تعالى وجهه بأنه الذى دلس على قتلة عثمان رضي الله عنه ، وكان كرم الله تعالى وجهه قد تصرف بسلاح عثمان.
وكان الأمير كرم الله تعالى وجهه يلعن القتلة ويقول : ( يا معاوية ، لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتنى أبرأ الناس من قتلة عثمان ) .
وتصرفه رضي الله عنه بسلاحه؛ لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال ، وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام .
ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مراراً وبقى كرم الله تعالى وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة وقيل تسعة ، وجرى ما تشيب منه الرءوس وتهون معه حرب البسوس ، وليلة الهرير أمرها شهير ، وآل الأمر إلى التحكيم ، وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج ، وذلك تقدير العزيز العليم . وأهل السنة إلا من شذ يقولون : إن علياً كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر ، وعن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا بكافرين خلافاً للشيعة ، ولا فاسقين خلافاً للعمرية أصحاب عمر بن عبيد من المعتزلة . وأما أن الحق مع علي كرم الله تعالى وجهه فغني عن البيان ، وأما كون المقاتل باغياً فلأن الخروج على الإمام الحق بغي ، وقد صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية وقد قتله عسكر معاوية .
وقوله حين أخبر بذلك (( قتله من أخرجه )) ومما لا يلتفت إليه وإلا لصح أن يقال إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قاتل حمزة وأضرابه ممن قاتل معه صلي الله عليه وسلم ، وكذا قول من قال : المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أى لدم عثمان ، فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم ، وأما كونه ليس بكافر فلما في نهج البلاغة أن علياً كرم الله تعالى وجهه خطب يوماً فقال : (( أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبهة )) ، وقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يجب المقسطين }(الحجرات: 9) , فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلين (( مؤمنين )) وأمر بالإصلاح بينهما .
وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه ، والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين أقتتلوا فيما بينهم ، وأن يقاتلوا إذا بلغت إحداهما حتى تفئ .
ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلاً ، لأن الأمر الثاني يستدعى أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فأفهم .
ومما يدل على أن المحارب غير كافر صلح الحسن رضي الله عنه مع معاوية ، وهو مما لا مجال لإنكاره .
وقد روى المرتضى وصاحب ( الفصول المهمة ) من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه رضي الله عنه وبين معاوية خطب فقال : إن معاوية نازعني حقاً لي دونه ، فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة ، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم أنتهى .
وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق الصالح وأن المصالحة لم تقع إلا أختياراً ، ولو كان المصالح كافراً لما جاز ذلك ولما صح أن يقال (( فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة )) أهـ .
فقد قال سبحانه وتعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }(البقرة:193 ) .
ويدل على وقوع ذلك اختياراً أيضاً ما رواه صاحب ( الفصول ) عن أبي مخنف من أن الحسين رضي الله عنه كان يبدى كراهة الصلح ويقول: لو جز أنفى كان أحب إلى مما فعله أخى ، فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه رضي الله عنهما اختياراً فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر .
وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية رضي الله عنه ندم على ما كان منه في المقاتلة والبغي على الأمير كرم الله تعالى وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله تعالى وجهه . فقد أخرج ابن الجوزى عن أبي صالح قال : قال معاوية لضرار : صف لي علياً . فقال : أو تعفيني . قال : بل تصفه . فقال : أوتعفيني . قال : لا أعفيك . قال : أما ولابد فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته . كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ويخاطب نفسه . يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما خشن . كان والله كاحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه . إلى أن قال : لا تطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، فكأنى أسمعه يقول : يا دنيا يا دنيا ألي تعرضت أم بي تشوقت ؟ هيهات هيهات ، غرى غيرى قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطوك كبير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق, قال : فذرفت دموع معاوية ، فما يملكها وهو ينشفها بكمه ، وقد أختنق القوم بالبكاء , ثم قال معاوية : رحم الله تعالى أبا الحسن ، كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ فقال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها . انتهى .
وما يذكره المؤرخون من أن معاوية رضي الله عنه كان يقع في الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه ، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف ، وأكثرهم خاطب ليل لا يدرى ما يجمع فالاعتماد على ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذى تضل فيه القطا وتقصر دونه الخطا مما لا يليق بشأن عاقل فضلاً عن فاضل .
وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضاً التوقف عن قبوله والعمل بموجبه ، لأن له معارضات مسلمة في الصحة والثبوت . على أن من سلم من داء التعصب بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الماثل ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل .
=========
المصدر: موقع فيصل نور.