إن الله تعالى طيبـ
عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } [المؤمنون: 51] وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة :172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغدى بالحرام فأنى يستجاب له" رواه مسلم (1).
ترجمة الراوي : ـ
سبق التعريف به مقتضيا ، ولا بأس أن نورد هنا بعضا من مناقبه ، كان اسمه رضى الله عنه في الجاهلية عبد شمس أو عبد عمرو ، وبلغ ما رواه من الحديث خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وستون حديثا ، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : يقولون : إن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد (2) ، ويقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه وسأخبركم عن ذلك : إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم ، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما : ـ " أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس شيئا سمعه " ، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه ثم جمعها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به ، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات }إلى آخر الآيتين[ البقرة:159، 160](3)
دروس وعبر من كلام سيد البشر
ـ
العقائدية : ـ
"إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا" .
أ ـ فالله سبحانه منزه عن كل النقائص ، تعالى ربنا علوا كبيرا ، عن العدم ، والحدوث ، والفناء ، والافتقار ، والمماثلة للحوادث والشريك ، والعجز ، والكراهة ، والجهل ، والممات ، والصمم ، والبكم ، والعمى إذ يستحيل على الله ذلك ، ويجب له كل صفات الكمال.
ب ـ ولا يقبل إلا عملا صالحا قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [فاطر:10] والعمل الصالح هو ما توفر فيه هذان العنصران :
أولا : أن يكون موافقا للشريعة الإسلامية ولا يتعارض مع أصل من أصولها.
ثانيا : وأن يكون خالصا لوجه الله تعالى فلا يخامر قلب صاحبه رياء وسمعة.
وبذلك يشرك فيه غير وجه الله ـ عز وجل ـ ومن هنا فلا يبقى العمل عملا طيبا.
علم السلوك : ـ
الآية الواردة في الحديث ، وهي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة :172] ورد في تفسيرها أن { من } فيها ابتدائية وتفيد التبعيض أيضا :
أ ـ فعلى من يريد الصفاء النفسي والسمو الروحي أن يبتدئ بأكل الحلال أساسا منذ نعومة أظافره حتى تنمو أعضاؤه بالحلال ويتغذى جسمه بالحلال، فلا يتحجر قلبه ولا تجف جفونه ، بل تزكو نفسه فتنبعث أعضاؤه لفعل الخير، وورد في الأثر : أن موسى ـ عليه السلام ـ مر برجل قائم يدعو ويتضرع طويلا وهو ينظر إليه فقال موسى : يا رب أما استجبت لعبدك ؟ ! فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى إنه لو بكى حتى تلفت نفسه ورفع يديه حتى بلغ عنان السماء ما استجبت له قال يا رب لم ذلك ؟ قال : لأن في بطنه الحرام ، وعلى ظهره ، وفي بيته الحرام .
ب ـ إن الذى حظى بمنزلة المراقبة السامقة ليعزف عن ملذات الحياة الدنيا ، وعن كثير من طيباتها فضلا عن محرماتها ، وهذا سعيا لإخلاء البطن لأنه كما قيل : البطنة تذهب الفطنة ، وعملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع " .
الفقهية : ـ
"إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا " .
أ ـ فلا يتقرب المؤمن لربه بعمل خبيث أو بمال حرام من سرقة أو ربا ، بل ويكره التصدق بالردئ من الطعام ، وبما فيه شبهة لقول الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [البقرة : 267] فضلا عن الحرام البين فالتصدق منه غير مقبول . عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول" (4) ، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضى الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " . وسئل ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال : إن الخبيث لا يكفر الخبيث.
ولكن هل للغاصب والمرابي وغيرهما ممن اكتسب حراما من توبة ؟ وهل توبته الخروج من جميع ماله أم بقدر الحرام الذي أخذه ؟
ذلك مناط بحث وخلاف بين الفقهاء ، وفي تفسير القرطبي ما يغني عن كثير من الكتب ، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم} [البقرة:279] : ( ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لا يتميز ، ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقى هو الحرام ، قال ابن العربي : وهذا غلو في الدين ؛ فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه ، ولو تلف لقام المثل مقام والاختلاط إتلاف لتمييزه ؛ كما أن الإهلاك إتلاف لعينه ، والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسا بين معنى ، والله أعلم .
قلت ـ والقول للقرطبي دائما ـ : علماؤنا : إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه ، ويطلبه إن لم يكن حاضرا ، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه ، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه ، فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده ، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده ، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه ، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه فإن أحاطت المظالم بذمته ، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته ، فتوبته : أن يزيل ما بيده أجمع ، إما إلى المساكين ؛ وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين ، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة ، وهو من سرته إلى ركبتيه ، وقوت يومه ؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه ؛ وإن كره ذلك من يأخذه منه)(5).
ب ـ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومن بين أسفار العبادات الطويلة السفر إلى الحج ، فهل يصح الحج بالمال الحرام ؟ لقد اختلف العلماء فيمن حج بالمال الحرام ومثله من صلى بالثوب المغصوب هل يسقط عليه الفرض أم لا ؟
عند أكثر العلماء يجزئ الحج ويأثم صاحبه ، وفيه يقول الشيخ خليل : وصح بالحرام وعصى.
وفي تعليق الدسوقي على تلك العبارة أورد هذه الآراء : قال الحطاب: الحج الحرام لا ثواب فيه وإنه غير مقبول . واعترضه الشيخ أبو على المسناوي بأن مذهب أهل السنة : أن السيئة لا تحبط ثواب الحسنة بل يثاب على حجه ويأثم من جهة المعصية . ا.هـ .
وقال ابن العربي : من قاتل على فرس غصبه فله الشهادة وعليه المعصية، أي : له أجر شهادته وعليه إثم معصيته.
وإذا علمت هذا ، فقول المصنف : وعصى معناه أنه لا يثاب عليه كثواب فعله بحلال فلا ينافي أنه يثاب عليه وليس المراد نفى الثواب عنه بالمرة كما هو ظاهره وظاهر قول الخطاب (6).
ج ـ قوله صلى الله عليه وسلم : " يمد يديه إلى السماء " إشارة إلى هيئة الدعاء المحمودة التي تتضمن : تحري الحلال ، وألا يدعو الداعي بحرام ، وأن يكون طاهرا مستحضرا قلبه ، موقنا بالإجابة ، ويستفتح دعاءه بحمد الله والثناء عليه ، وبالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم .
الاجتماعية : ـ
"إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا " .
فعلى المسلم الصادق أن يكون طيبا في عمله ، وطيبا في تعامله مع إخوانه ، فلا ينطق إلا طيبا ؛ لأنه يدرك أثر الكلمة وأبعادها . قال تعالى : { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } [إبراهيم:24ـ26] ، ولا يخالل أو يجالس إلا طيبا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" ، وقديما قالوا : إن الطيور على أشكالها تقع ، وصدق شاعرنا العربي إذ يقول :
لا تسل عن المرء وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدى
وعلى المؤمن الطيب ألا يختار خضراء الدمن في زواجه أو الجميلة الغنية التي لا خلاق لها ، لأن بحسب اختياره تظهر حقيقته ويحدد مصير عياله ، قال تعالى : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} [النور:26] ، ويقول سبحانه : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} [الأعراف :58].
السياسية : ـ
أ ـ "وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " . هذا مع الأنبياء والمرسلين ، فما بالك مع الزعماء والأمراء ؟ ! إن الحاكم والمحكوم في الإسلام أمام الواجبات والمنهيات سواء ، فلا تؤمر الرعية بما لم يؤمر به الراعي ، ولا يتميز الأمير عن المأمور كما يتطاول البعض الآن ، ويتخذون من رقاب الرعية عبيدا ومن أموالهم غنائم ؛ لأنهم هم المشرعون والمقننون شعارهم دوما عليكم لا علينا ، وهذا لنا ليس لكم ، لنا الحقوق وعليكم الواجبات ، ومن ثم لا يشعر الحاكم بما يعاني به شعبه ، لأنه لا يتنزل من أبراجه ولا يتقاسم معه همومه ولا يشاطره أحاسيسه ، قيل : إن امرأة الملك الفرنسي لويس الثاني أطلت على المتظاهرين من قصر فرساي ، وسألت عن الدافع إلى خروجهم ، فقيل لها : الجوع ، فقالت : أطعموهم البسكويت !
ب ـ ولو أخذ السلطان أو بعض نوابه من بيت المال ما لا يستحقه فتصدق منه أو أعتق أو بنى به مسجدا أو غيره مما ينتفع به الناس ، فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما غصبه ، كذلك قيل لعبد الله بن عامر أمير البصرة وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه وابن عمر ساكت ، فطلب منه أن يتكلم ، فروى له حديث : " لا يقبل الله صدقة من غلول" ثم قال له : وكنت على البصرة ، وقد ورد أيضا : أن ابن عمر قال لابن عامر وقد سأله عن العتق فقال : مثلك مثل رجل سرق إبل حاج ثم جاهد بها في سبيل الله فانظر هل يقبل منه ؟ وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاوس ووهيب بن الورد يتوقون الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك ، وأما الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة كالمساجد والقناطر والمصانع ، فإن هذه ينفق عليها من مال الفئ ، اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا أشياء من ذلك بمال حرام كالمكوس والغصوب ونحوهما ، فحينئذ يتوقى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام ، ولعل ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم ، ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم ، فإن هذا شبيه بالغصوب ، وعلى مثل هذا يحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد (7).
الاقتصادية : ـ
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة : 172].
أي من بعض الطيبات بحيث لا يكون ثمة إسراف وتبذيرأو شح وتقتير في استعمال الطيبات كما نشاهده على موائد رمضان في أهل هذا الزمان خاصة أو على موائد علية القوم وكبرائهم بحيث تصرف على زركشتها الملايين ويقيض لها أمهر الطهاة . . . ثم تذهب هدرا وعبثا ، وعلى جنبات الأمير المدلل شعب مذلل يتضور جوعا ، فالأمة المسلمة اليوم بين أمير منوع وشعب جزوع ، ولا يجرؤ أحد من علماء السلطة وفقهاء الشرطة على التذكير بقول العليم الخبير : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف :31] ، { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } [ الفرقان :67] { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء :27] ، وعزاؤهم دوما قول ربنا : { كلوا من طيبات ما رزقناكم} . إن مصائبنا الاقتصادية هي من تخطيط أعدائنا وتنفيذ كبرائنا لتكون هذه الأمة رهينة لقمة عيشها .
الطيبة : ـ
{ كلوا من الطيبات } [ المؤمنون : 51] .
أ ـ العبرة في الأكل ليست في الكثرة كما هو سائد عند البعض ، بل بالنوعية ، فالغذاء المتكامل ـ فيتامينات وبروتينات ـ كفيل بأن يمد للجسم قوته وحيويته . ولقد جرت الكثرة من الأكل بنهم عللا كثيرة وأدواء خطيرة .
أولها : داء السمنة التي هي مشكلة العصر ، حيث إن المواد النشوية والدهنية التي لا تتحول إلى سعرات حرارية تختزن وتتحول إلى عشرات الكيلوغرامات من الشحوم فتقعد صاحبها عن العمل ، وتعوقه عن الحركة ، وتجهد قلبه ـ والعياذ بالله ـ ولقد أعلنت جل التجارب الطبية والرياضية عن فشلها لحل هذه المعضلة وأضحى هاجسها يقلق الكثير من الفتيات ، ولكن لو استطبب هؤلاء بقوله تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة :172] ، وبالأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأن لكفاهم ذلك شر ما هم فيه أو ما يحذرون ! عن المقدام بن معد يكرب رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم اكيلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " (
، وعن أبي جحيفة رضى الله عنه قال : أكلت ثريدة من خبز ولحم ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أتجشأ ، فقال : " يا هذا كف عنا من جشائك ، فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة "(9) ، وروى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع ، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم(10).
ب ـ "وغذي بالحرام " :
المحرم قسمان : محرم لذاته ، ومحرم لعارض ، وهو ما يؤخذ بوجه غير صحيح كالسرقة ، والغصب ، والرشوة . . . وهلم جرا . أو بتعبير آخر هو ما يؤدي إلى محرم ذاتي . ونعود إلى المحرم الذاتي فنقول : هو ما قصد الشارع إلى تحريمه لما فيه من ضرر ذاتي كأكل الميتة ، وشرب الخمر ، وغير ذلك مما يمس الضروريات الخمس وهي : حفظ الجسم ، والنسل ، والمال ، والعقل ، والدين . والغالب في الحرام ـ بل المؤكد ـ المتغذي به أن يكون سما مضرا وميكروبا خطيرا يؤدي إلى خلل في الجسم ، أو عطب في أحد الأجهزة بسبب تلك الأمراض الفتاكة التي أعيت الأطباء وحيرت العقلاء ، لا أرى أن هذا مجال بحث بعض منها .
فقه الدعوة
ـ
1ـ الداعي الصدوق لا يأمر بالأمر إلا إذا ترجمه بلغة الفعل ، لأنها في الحقيقة وإن كانت اللغة القولية أبلغ في التعبير فإن الفعلية أبلغ في التأثير ! ولذا كان جعفر الصادق ـ رضوان الله عليه ـ يقول دائما : كونوا دعاة لنا صامتين . وها هو المجدد للخليفة الخامس ابن عبد العزيز لا يدعو الناس إلى الشئ حتى يأتي أهله ويحثهم على تجسيده قبل أي أحد من باقي الرعية ولقد استنكر الحق سبحانه على الدعاة غير العاملين حيث قال : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } ؟ ! [ البقرة :44] ، وها هم الرسل الأصفياء عليهم السلام يؤمرون بما نؤمر ، بل ويختصون بواجبات أخرى .
2ـ وعلى الداعية أن يحسن عرض دعوته ، فيعرف ماذا يقدم وماذا يؤخر ، وأن يستمد أفكاره ومبادئه من القرآن الكريم دائما ، وأن يدلل على صدق حديثه بالآيات الكريمة ، وليكون له ذلك عليه أن يكون حافظا للقرآن الكريم ، أو على أقل تقدير أن يحفظ الآيات الواردة في كل موضوع يطرقه حفظا جيدا . وكثيرا ما يزدري العامة الخطيب المفوه إذا كان يخلط بين الآيات القرآنية أو لا يحسن قراءتها . . . . ومن ثم قد يتعرض للنقد أو للاعتراض ، ولقد حدث هذا مرة . . . حيث تلا المدرس آية لا يحفظها ، فقام إليه من بين المصلين من يصحح له خطأه ويشنع عليه ذلك ، فارتج على الرجل ولم يجد بدا إلا أن يقول معترفا : إنني لا أحفظ سوى جزءا ، وهنا سقط في أعين الحاضرين . . . وحتى قال قائلهم : ما دام لا يحفظ كتاب الله ، فهل يدرسنا طوال هذا العهد من كتابه . . !
تطبيق
ـ
1ـ "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا" .
وما يتعاطاه بعض الجهال والضالين من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان لا يسمي طيبا ، وليس من العمل الطيب في شئ أي قول أو فعل يخالف السنة النبوية الشريفة .
2ـ إن الأنبياء والمرسلين على كبر قدرهم وعلو شأنهم عند الله ، ومع ذلك أمروا بما أمر به أتباعهم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الخمس كما نصلي ويصوم الشهر كما نصوم فهل فضل شيوخ الطرقية بدرجة اليقين المزعومة حتى على المصطفين الأخيار والمرسلين الأطهار عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى السلام ؟ !
فهلا استحييتم أيها الدجالون . . . !
3ـ ابتلينا في عصرنا هذا بتفشي الربا وتعدد مسالكه ، فهذه الفوائد الربوية التي تدفعها البنوك في البلدان العربية والإسلامية ، والتي لا يتحرج الكثير من المسلمين في أخذها . وربما تفلسف البعض فصرفها في المساجد والمدارس وبناء المشاريع الخيرية المختلفة ، ولكننا نقول لهم : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وجانب آخر من الجوانب الربوية ، والذي هو القروض التي تعطى للفلاحين والصناع والحرفيين على أن ترد بأضعاف مضاعفة ، فهذه هي الأخرى أموال خبيثة لا تطيبها الحجات المتكررة ولا الركعات المتوالية .
****المراجع والهوامشـ
1ـ إن الله تعالى طيب : أي طاهر منزه عن كل النقائص متصف بكل كمال.
لا يقبل إلا طيبا : لا يقبل من أعمال العباد إلا ما كان طيبا ، وتكون أعمال العباد طيبة إذا توفر فيها هذا الشرطان : أن تكون صحيحة مشروعة ، وأن تكون خالية من الرياء.
بما أمر به المرسلين : أي أنه أمر كل رسول بهذا في زمانه.
يطيل السفر : أي يخرج الرجل مسافرا في طاعة الله سفرا طويلا.
أشعث : أي مغبر الرأس.
أغبر : أي البدن والثوب.
وغذي بالحرام : أي شبع.
فأنى يستجاب له : أي استبعاد الإجابة للدعاء.
2ـ قد أكثر : أي من رواية الحديث ، والله الموعد : أي سيسألني إن كنت كاذبا.
3ـ رواه مسلم والبخاري والترمذي.
4ـ صحيح مسلم .
5ـ تفسير القرطبي 3/237.
6ـ حاشية الدسوقي 2/10.
7ـ جامع العلوم والحكم ص 94 بتصرف.
8ـ رواه الترمذي وحسنه .
9ـ رواه الحاكم ، وقال : "صحيح الإسناد".
10ـ رواه البخاري في كتاب الضعفاء ، وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع.